الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تمكين الكفار في الأرض لا يستدلّ به على صحة اعتقادهم

السؤال

ما الحكمة من بقاء أجسام الفراعنة محنّطة حتى الآن، رغم مرور آلاف السنين عليها؟ ولماذا تركهم الله على تلك الحالة؟ أليس هذا بمنزلة إثبات أنهم كانوا على بينة وحق "في نظرهم هم"؟ فلماذا لم تُبلَ أجسادهم؛ كي تثبت أكذوبتهم بشأن الخلود؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فتمكن الفراعنة من تحنيط أجساد الموتى، وإبقاء هذه الجثث محفوظة، لا يلزم منه أنهم كانوا على بينة، وحق!!

ولا يصح الاستدلال به على صحة معتقداتهم، سواء في مسألة الخلود، أم في عودة الأروح إلى أجساد فراعنتها؛ لتحكم العالم من جديد.

وغاية الأمر أن الله تعالى أعطاهم من أنواع العلوم الدنيوية ما خفي علينا، ومكَّن لهم في الأرض ما لم يمكّن لنا، وهذا ظاهر من آثارهم، شأنهم في ذلك شأن الأمم السابقة التي أهلكها الله تعالى، كما قال سبحانه في شأن عاد: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130]، وقال في حال ثمود: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [الشعراء:146-149]، وقال في حقهم جميعًا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ [الفجر:6-11].

فهذه الأمم كان عندهم من العلم، والقوة، والتمكين في الأرض، ما لم يحصل لمن بعدهم، وقد اغتروا بذلك، فكانوا يستخفّون بالرسل والرسالات، فخرًا وكبرًا وعتوًّا، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [غافر:82-83]، قال البقاعي في نظم الدرر: {فرحو بما عندهم من العلم} الذي أثروا به تلك الآثار في الأرض، من إنباط المياه، وجر الأثقال، وهندسة الأبنية، ومعرفة الأقاليم، وإرصاد الكواكب لأجل معرفة أحوال المعاش، وغير ذلك من ظواهر العلوم المؤدية إلى التفاخر، والتعاظم، والتكاثر. اهـ.

وهذه الجملة يدل عليها طائفة من آيات القرآن الكريم: منها قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم:9] وقوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام:6]، وقوله عز وجل: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ:45]، وغير ذلك من الآيات.

والمقصود أن ما أوتيه هؤلاء القوم من أنواع العلوم، والتمكين في الأرض، لا يستدل به على صحة اعتقادهم، أو استقامة طريقتهم! وإنما يستدل بها على أن هذه النعم الظاهرة، والعطايا المتكاثرة، لم تَحُلْ بينهم وبين عقاب الله، ولم تغنِ عنهم شيئًا، بل أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وجعلهم عبرة لمن يعتبر.

وأبقى من آثارهم ما يفي بهذه الغاية لمن صحّ نظره، واستقام فكره.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني