الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السمنة وكثرة الأكل وعدم الرياضة لإنقاص الوزن

السؤال

قد ثبت علميًّا أن السمنة، وعدم ممارسة الرياضة، والأكل غير الصحي، يؤدي للموت، فهل يأثم المسلم لعدم إنقاص وزنه؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنك قد سألت عن ثلاثة أمور: الأكل غير الصحي، والسمنة، والرياضة.

فأما الأكل غير الصحي: فليس بمجرده وصفًا يُناط به التحريم، ويُخرج به عن أصل الإباحة.

وإنما مناط التحريم، هو: أكل ما يتحقق ضرره البالغ غير المتحمل للشخص العادي، كما سبق مفصلًا في الفتويين: 187155، 118201.

وأما السمنة: فالمذموم منها ما كان ناشئًا عن الانهماك في الدنيا، والتوسع في الملذات، والعكوف على الشهوات، وهي بهذا الاعتبار منهيٌ عنها.

وأما ما كان بغير اكتساب العبد واختياره، كأن كان خلقة خلقه الله عليها، فليس هو مذمومًا، ولا منهيًّا عنه؛ لأنه ليس تحت مقدور العبد، كما تقدم تفصيله في الفتوى: 123774.

ومما يتصل بهذا: حكم الزيادة على الشبع في الأكل: وقد اختلف الفقهاء فيه هل هو محرم أم مكروه تنزيهًا، قال الهيتمي في التحفة: وصرح الشيخان بكراهة الأكل فوق الشبع، وآخرون بحرمته، ويجمع بحمل الأول على مال نفسه الذي لا يضره، والثاني على خلافه. اهـ.

وفي كشاف القناع: (والسنة أن يكون البطن أثلاثًا: ثلثًا للطعام، وثلثًا للشراب، وثلثًا للنفس) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه».

(ويجوز أكله أكثر) من ثلثه (بحيث لا يؤذيه و) أكله كثيرًا (مع خوف أذى وتخمة، يحرم) نقله في الفروع عن الشيخ تقي الدين بعد أن نقل عنه يكره. اهـ.

فتبين أن بعض الفقهاء لا يرون تحريم الشبع، وكثرة الأكل -مع أن أثرها السيء على الصحة لا يكاد يخفى على أحد منهم-.

وأما ممارسة الرياضة، وعدم إنقاص الوزن: فغايته أن يكون من باب التداوي، والتداوي غير واجب من حيث الأصل، إلا في أحوال مستثناة، قال ابن تيمية: والتداوي غير واجب، ومن نازع فيه: خصمته السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الصبر على البلاء، ودخول الجنة، وبين الدعاء بالعافية، فاختارت البلاء والجنة. ولو كان رفع المرض واجبًا، لم يكن للتخيير موضع، كدفع الجوع، وفي دعائه لأبي بالحمى، وفي اختياره الحمى لأهل قباء، وفي دعائه بفناء أمته بالطعن، والطاعون، وفي نهيه عن الفرار من الطاعون.

وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء، حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له، مثل أيوب -عليه السلام-، وغيره.

وخصمه حال السلف الصالح؛ فإن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حين قالوا له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني، قالوا: فما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. ومثل هذا، ونحوه يروى عن الربيع بن خثيم المخبت المنيب، الذي هو أفضل الكوفيين، أو كأفضلهم، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي، وخلق كثير لا يحصون عددًا.

ولست أعلم سالفًا أوجب التداوي، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلًا واختيارًا؛ لما اختار الله، ورضي به، وتسليمًا له، وهذا المنصوص عن أحمد، وإن كان من أصحابه من يوجبه، ومنهم من يستحبه، ويرجحه. اهـ. من مجموع الفتاوى.

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: ذهب جمهور العلماء -الحنفية، والمالكية - إلى أن التداوي مباح، غير أن عبارة المالكية: لا بأس بالتداوي. وذهب الشافعية، والقاضي، وابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة إلى استحبابه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بالحرام. وغير ذلك من الأحاديث الواردة، والتي فيها الأمر بالتداوي. قالوا: واحتجام النبي صلى الله عليه وسلم وتداويه، دليل على مشروعية التداوي. ومحل الاستحباب عند الشافعية عند عدم القطع بإفادته. أما لو قطع بإفادته، كعصب محل الفصد، فإنه واجب. ومذهب جمهور الحنابلة: أن تركه أفضل، ونص عليه أحمد، قالوا: لأنه أقرب إلى التوكل. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني