الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة من الابتلاء وثواب الصابر عليه

السؤال

السادة المحترمون
بارك الله فيكم.
أنا شاب أبلغ من العمر 29 عاما، أعمل محاسبا في إحدى المصالح الحكومية. ويشهد الناس لي بالطيبة والأخلاق
والاحترام.
أصبت منذ كان عمري 6 شهور (بشلل أطفال) بالطرف السفلي الأيمن، مع ضعف وضمور شديد بالعضلات، وقصور بالطرف 6 سنتي.
الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
وقد أجريت عدة عمليات به.
عشت طفولتي بين أصدقائي وجيراني، وفي بعض المواقف أسأل نفسي لماذا أنا مختلف عن الآخرين؟ ولماذا لا أستطيع فعل بعض الأشياء؟ ودائما أقارن نفسي بالآخرين؛ مما سبب لي انطوائية بعض الشيء، وخجلا في بعض المواقف من نظرات الناس إلي.
ومر الوقت، ومنذ بلوغي وأنا مواظب على الصلاة في المسجد فرضا بفرض، وانتهت الدراسة، وجاء موعد الزواج. منذ ست سنوات وأنا أتقدم للزواج من الفتيات، ولكن أرفض، وأحاول مرة تلو الأخرى وأفشل.
لي صديق تعرفت عليه في العمل منذ 8 سنوات، وأنا على علاقة كبيرة به جدا أكثر من الأقارب، وكل عشرة أيام أزوره في منزله. وله بنت رغبت بالزواج منها جدا جدا جدا، وتقدمت له 4 مرات ولكن رفضت، مع العلم بأن والديها موافقان. ولقد كانت آخر مرة منذ شهر، مما سبب لي حزنا. أخذت قرارا بعدم الذهاب إلى بيته مرة أخرى، ولقد دعوت الله كثيرا لتوافق..
أتحدث إلى نفسي، وأقول لماذا يرفضوني وما ذنبي؟
* هل هذه (الإعاقة) ابتلاء من الله وما جزاؤه؟
* ولماذا اختارني الله؟
* ما هو علاج الخجل والمقارنة؟
* مشكله الزواج؟
* علاقتي بزميلي؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في كون ما أصابك هو ابتلاء واختبار من الله تعالى.

واختيار الله تعالى لك لتكون من أهل هذا الابتلاء، راجع إلى علمه وحكمته سبحانه، فهو أعلم بخلقه من كل أحد، وأعلم بما يصلحهم، وأرحم بهم من آبائهم وأمّهاتهم، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْي، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ». قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ وَهِي تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا. رواه مسلم.
والابتلاء من الله تعالى دليل محبته للعبد؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم. فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي.

وصبرك على هذا الابتلاء؛ فيه أجر عظيم وفضل كبير، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. [الزمر: 10].
حتى إنّ أهل العافية في الدنيا يحسدون أهل البلاء يوم القيامة على عظيم أجرهم، ففي سنن الترمذي عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ.

وحين يلقى العبد جزاء صبره على البلاء في الآخرة، ينسى كل ما لاقاه في الدنيا من المصائب، ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ.
فاصبر وأبشر خيراً، ولا تقطع علاقتك بزميلك الذي أردت زواج ابنته، واطرق أبواب الزواج من غيرها، ولا تحزن على ما فاتك، ولا تيأس وأحسن الظنّ بالله. واعلم أنّ الله قد يصرف عنك شيئا ويدخر لك خيراً منه؛ قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
قال ابن القيم -رحمه الله-: والعبد لجهله بمصالح نفسه، وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه، لا يعرف التفاوت بين ما منع منه، وبين ما ذخر له. بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليّا. انتهى.

وأمّا الخجل فالتخلص منه يسير بإذن الله، وذلك بالاستعانة بالله عز وجل، والتعود على مخالطة الناس في المعروف، والتدرب على الشجاعة في مواجهتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، فإن الأخلاق تكتسب بالتعود والتمرين. فعن أبي الدرداء قال: العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني