الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شرح حديث: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ.." ومسألة العذر بالجهل

السؤال

روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً». رواه البخاري، كيف نفسر هذا الحديث؟ وهل يعني هذا أن الشخص غير المسلم البالغ عشرين سنة، أو ثلاثين سنة مثلًا، قد يكون لديه عذر أمام الله؟ مع الأخذ بالاعتبار: الخداع، وغسيل المخ، والإرهاب الذي غطّى على إدراك غير المسلمين للإسلام بصورته الصحيحة في زمننا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فمعنى الحديث: أن من مُدَّ في عمره حتى بلغ ستين سنة، فليس له عذر في ترك التوبة، وترك الإقبال على الله تعالى؛ لأنه قد دنا أجله، وذهبت قوة الشباب عنه، وهي الداعية إلى الصبوة، ومتابعة الهوى، قال المناوي في فيض القدير وهو يشرح هذا الحديث: (أعذر الله إلى امرئ): أي: سلب عذر ذلك الإنسان، فلم يُبق له عذرًا يعتذر به، كأن يقول: لو مدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، فالهمزة للسلب، أو بالغ في العذر إليه عن تعذيبه حيث (أخّر أجله) يعني: أطاله (حتى بلغ ستين سنة) لأنها قريبة من المعترك، وهو سن الإنابة، والرجوع، وترقّب المنية، ومظنة انقضاء الأجل، فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار، ولزوم الطاعات، والإقبال على الآخرة بكلّيته، ثم هذا مجاز من القول؛ فإن العذر لا يتوجه على الله، وإنما يتوجه له على العبد.

وحقيقة المعنى فيه: أن الله لم يترك له شيئًا في الاعتذار يتمسك به، وهذا أصل الإعذار من الحاكم إلى المحكوم عليه. انتهى.

وبهذا يتبين أنه ليس معنى الحديث أن من دون هذه السن، فله عذر في أن يكفر بالله، أو أن يعصيه، كما يحلو له -حاشا لله، وكلَّا-.

وأما مسألة العذر بالجهل: فهي مسألة شائكة ومتشعبة، وللعلماء فيها مباحث طويلة، ليست الفتوى محلًّا لسردها.

وحَسْبُ المكلَّفِ منها أن يعرف أن كل من دان بغير دين الإسلام، فهو كافر، يعامل معاملة غير المسلمين في أحكام الدنيا.

وأما الآخرة، فالأمر فيها إلى الله، فهو الحكم العدل الذي يزن بالقسطاس المستقيم، فلا يُظلَمُ عنده أحدٌ.

ويجب أن نعتقد أنه سبحانه لا يعذّب إلا من بلغته الحجة، وانقطع عذره، وأنه ليس أحد أحبَّ إليه العذر من الله، كما في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ.

قال ابن القيم في طريق الهجرتين - وهو يتكلم عن طبقات المكلفين -: والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه، وعدله، ولا يعذّب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق.

وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا؛ فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام، فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة. والتعيينُ موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب.

وأما في أحكام الدنيا، فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. انتهى محل الشاهد من كلامه. ومن أراد المزيد، فليرجع إلى المصدر المذكور.

وهذا القدر كاف في هذا المقام، والدخول في غير ذلك من التفاصيل الشائكة، لا ينبني عليه عمل، ولا يكلف أحد بمعرفته.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني