الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حسن الظن عند ظهور العلامات الدالة على سوء الشخصية وخبث الطوية

السؤال

هل حسن الظن واجب حتى عند ظهور علامات واضحة وضوح الشمس، حول نية الشخص السيئة تجاهك، أو على صفات معينة يحملها؟ ففي علم النفس دلائل وقرائن تدل على شخصية الإنسان، وهل هو بخيل أم شكاك، وحقيقة مشاعره تجاهنا، وقد أثبتت بتجارب الناس مرارًا وتكرارًا، كصفات الصديق الحسود مثلًا، فهو يحاول التقليل من نجاحك، وينتقد نقاط ضعفك، ويهنئك الجميع على نجاحك إلا هو، ومهووس بك، فيحاول دائمًا أن يبقى على اطلاع على كل ما تفعله، وهو فائق التركيز في كل شيء يتعلق بك؛ لكي ينتقدك حين تكون الفرصة مواتية، ويوقعك في الفخ، ويحاول دائمًا أن يفقدك ما نلته؛ لكي يحصل عليه هو، ويسعى إلى تخريب نجاحاتك، كالإساءة إليك أمام مرؤوسك، إذا علم أنك حصلت على ترقية ما، وتظهر عليه علامات الكراهية فجأة، مع عدم الإساءة إليه، أو التكلم عنه. وهي عوارض الغيرة والحسد، لكنها تجسّدت في هيئة الكراهية.
وعلامات الشخص المتسلط أنه يلقي اللوم على الآخرين، وينتقدك باستمرار، ويكره رؤيتَك مع من تحب، ويحاول جعلك تهتم به وحده طول الوقت بأن يبعدك تدريجيًّا عن أصدقائك وعائلتك، ويجعلك تشكّ في نفسك، وينتقص من مشاعرك بالكذب، أو اتهامك بالحساسية المفرطة، ومن صفته المزاجية، وأنه لا يتقبّل الرفض، ولا يتقبّل الحدود الطبيعية بين العلاقات الإنسانية، ويرفض كلمة «لا»، ويحاول إقناعك والضغط عليك لتغيير رأيك، كما أنه يحاول تغييرك، فكيف نحافظ على حسن الظن بالشخص بعد كل هذه العلامات أو بعضها؟ حتى لو كان الشخص مسلمًا؛ فالمسلمون غير معصومين، وهم أيضًا يقعون في الحسد، والواقع خير دليل.
ولو جاء للمرأة خاطب ظاهره الصلاح، وتكلم الناس عنه بالخير، لكن ظهرت عليه علامات الشخصية المتسلطة التي قد لا يظهرها للناس، فهل تتجاهلها بدعوى حسن الظن؛ حتى تجد نفسها مع رجل متسلّط يضيّق عليها، ويمنعها من رؤية أصدقائها وعائلتها؟ ومن المستحيل -عقلًا وواقعًا، مهما بلغ الإنسان من الطيبة- أن لا يقع في قلبه سوء الظن عندما يرى هذه العلامات، فهل يتجاهلها بدعوى حسن الظن؛ حتى يقع الفأس في الرأس؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن المحرم من سوء الظن هو: عقد القلب على ظن الشر بمسلم، لم تظهر منه ريبة. وأما حديث النفس، وجريان الخواطر بسوء الظن دون استقرار في القلب، فليس من سوء الظن المؤاخذ به، قال الغزالي في إحياء علوم الدين: اعلم أن سوء الظن حرام، مثل سوء القول، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء.

فأما الخواطر، وحديث النفس، فهو معفو عنه، بل الشك أيضًا معفو عنه، ولكن المنهي عنه أن يظن. والظن عبارة عما تركن إليه النفس، ويميل إليه القلب. اهـ.

ومن ظهرت منه الأمارات والقرائن الدالة على السوء، فلا إثم في سوء الظن به، قال القرطبي في تفسيره: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أن كل ما لم تُعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر، كان حرامًا واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث.

وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت، وظن في الناس ما شئت. اهـ.

وأما الأخذ بالقرائن الدالة على الطباع الشخصية -كالأمور التي ذكرتها في سؤالك-؛ للاحتراز والحذر والاحتياط في التعامل مع الشخص، دون جزم، ولا إساءة، ولا طعن؛ فهو ليس من سوء الظن المحرم، بل هو من قبيل الاحتراز والعمل بالفراسة، جاء في قوت القلوب لمكي بن أبي طالب: الفرق بين الفراسة وسوء الظن:

إن الفراسة ما توسمته من أخيك بدليل يظهر لك، أو شاهد يبدو منه، أو علامة تشهدها فيه، فتتفرس من ذلك فيه، ولا تنطق به إن كان سوءًا، ولا تظهره، ولا تحكم عليه، ولا تقطع به فتأثم.

وسوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه، أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون، أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك، فتحمل حال أخيك عليها، وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم، وهو غيبة القلب، وذلك محرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم من المؤمن دمه، وماله، وعرضه، وأن تظن به ظن السوء. وقوله عليه السلام: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. اهـ.

وقال ابن القيم في كتابه: الروح: الفرق بين الاحتراز وسوء الظن:

أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا، فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه. فالمحترز كالمتسلح المتطوع الذي قد تأهب للقاء عدوه، وأعد له عدته، فهمّه في تهيئة أسباب النجاة، ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن، أخذ في أنواع العدة والتأهب.

وأما سوء الظن، فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس؛ حتى يطفح على لسانه وجوارحه، فهم معه أبدًا في الهمز، واللمز، والطعن، والعيب، والبغض، يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه.

فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم.

الأول داخل فيهم بالنصيحة، والإحسان، مع الاحتراز، والثاني خارج منهم، مع الغش، والدغل، والبغض. اهـ.

وانظر الفتوى: 117482.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني