الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قوله تعالى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ

السؤال

وقل اعملو فسيرى الله عملكم (فسيرى) هنا، معناها الرؤية، أم تيسير الحال؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس المراد بالرؤية في قول الله تعالى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ {التوبة:105}. تيسير العمل أو الحال، بل المراد العلم بالعمل، وأن أعمالكم ستعرض على الله تعالى.

قال الشوكاني في فتح القدير: قَوْلُهُ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ. فِيهِ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ، أَيْ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَى رَسُولِهِ، وَلَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَسَارِعُوا إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَأَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-

وَفِيهِ أَيْضًا تَرْغِيبٌ وَتَنْشِيطٌ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَخْفَى سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، رَغِبَ إِلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ، وَتَجَنَّبَ أَعْمَالَ الشَّرِّ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ زُهَيْرٍ:

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنَّ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمُ

‌وَالْمُرَادُ ‌بِالرُّؤْيَةِ ‌هُنَا: الْعِلْمُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ. اهــ.

وقال ابن كثير في تفسيره: قَالَ مُجَاهِدٌ: ‌هَذَا ‌وَعيد، ‌يَعْنِي مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لِلْمُخَالِفِينَ أَوَامِرَهُ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ ستعرَضُ عَلَيْهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَلَى الرَّسُولِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، وَقَالَ: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، وَقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَماء لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّة، لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ".
وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَحْيَاءِ تُعرَض عَلَى الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْعَشَائِرِ فِي الْبَرْزَخِ، كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إن أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقْرِبَائِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ فِي قُبُورِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: "اللَّهُمَّ، أَلْهِمْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِكَ"

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ، عمَّن سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ، لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا".

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسن عَمَلِ امْرِئٍ، فَقُلْ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}». اهــ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني