الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في ‌إجارة ‌المنافع ‌من ‌جنسها ومن غير جنسها

السؤال

هل يجوز الانتفاع المتبادل بالسكن.
لي شقة في الطابق الأرضي، مساحتها 75 مترا مربعا، وقيمتها 39000 دولار.
لأخي شقة في الطابق الأخير، مساحتها 50 مترا مربعا، وقيمتها 13000 دولار.
أي إن شقتي تساوي في القيمة، ثلاثة أضعاف شقة أخي.
فهل يجوز شرعا أن نتفق على أن ينتفع أخي بشقتي لمدة ثلاث سنوات، ثم فيما بعد أنتفع بشقته لمدة 9 سنوات. أم ينطبق على هذا عدم الجواز مثل سلفني وأسلفك، أو أقرضني وأقرضك؟
وبارك الله فيكم، وجزاكم خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا بأس بالاتفاق المذكور من حيث الجملة، وليس هو من باب الديون، ولا يجري فيه الربا، وإنما هو إجارة، والأجرة فيها منفعة من الطرفين ومن جنس واحد (سكنى بسكنى) وهذا جائز عند جمهور العلماء، خلافا لأبي حنيفة.

فأكثر أهل العلم على أن الأجرة يصح أن تكون منفعة من جنس المعقود عليه، كإجارة السكنى بالسكنى، خلافا للحنفية، فلا يصح عندهم أن تكون من جنس المعقود عليه، ولكن يصح مع اختلاف الجنس كالسكنى بالخدمة.
قال الطحاوي في «اختلاف العلماء»: قال أصحابنا: لا يجوز سكنى دار بسكنى دار، وكذلك سائر المنافع لا يجوز بجنسها. وقال مالك: لا بأس بسكنى دار بسكنى أخرى. اهـ.
وقال القرافي في «الذخيرة»: يجوز سكنى دار بسكنى دار أخرى، وكل ما جاز إجارته، جاز أجره. وقاله أحمد والشافعي، قياسا للمنافع على الأعيان. وجوزه أبو حنيفة في اختلاف الجنس ‌كالسكنى ‌بالخدمة، ومنعه مع اتحاده حذرا من الدين بالدين؛ إذا لا يتصور إلا مع الاتحاد.

وجوابه: لا يتحقق الدين إلا أن يكون في الذمة ويتأخر، وهذه المنافع في الأعيان لا في الذمم، وقد شرع فيها فليست دينا. اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب في «المعونة»: يجوز أن يستأجر دارًا بسكنى دار أخرى، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن المنافع لا تكون أجرة للمنافع إلا أن يكون من جهة أخرى. لأنهما منفعتان يجوز عقد الإجارة على كل واحد منهما في الانفراد، فجاز أن يعقد على إحداهما بالأخرى كما لو كانا من جنسين. اهـ.
وقال ابن رشد في «بداية المجتهد»: أجاز ذلك مالك، ومنعه أبو حنيفة، ولعله رآها من باب الدين بالدين، وهذا ضعيف. اهـ.
وقال الشيرازي في «المهذب»: يجوز ‌إجارة ‌المنافع ‌من ‌جنسها ومن غير جنسها؛ لأن المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع، ثم الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض، فكذلك المنافع. اهـ.
وهذا هو الراجح.

قال ابن قدامة في «المغني»: الصحيح جوازه، وهو قول إسحاق، وأصحاب الرأي، وقياس قول الشافعي؛ لأنه عوض يجوز في البيع، فجاز في الإجارة، كالذهب والفضة. وما قاله أبو حنيفة لا يصح؛ لأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة، ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين؛ لأنه يكون بيع دين بدين. اهـ.
وقد ضعَّف الكاساني نفسه في «بدائع الصنائع» استدلال الحنفية بعلة الربا والدين بالدين، فقال في شروط الأجرة: أن لا تكون الأجرة منفعة هي من جنس المعقود عليه، كإجارة السكنى بالسكنى، والخدمة بالخدمة، والركوب بالركوب، والزراعة بالزراعة، حتى لا يجوز شيء من ذلك عندنا، وعند الشافعي ليس بشرط، وتجوز هذه الإجارة.

وإن كانت الأجرة من خلاف الجنس جاز كإجارة السكنى بالخدمة، والخدمة بالركوب، ونحو ذلك.

والكلام فيه فرع في كيفية انعقاد هذا العقد، فعندنا ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنفعة، فلم تكن كل واحدة من ‌المنفعتين ‌معينة، بل هي معدومة وقت العقد، فيتأخر قبض أحد المستأجرين فيتحقق ربا النساء، والجنس بانفراده يحرم النساء عندنا كإسلام الهروي في الهروي ... بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة؛ لأن الربا لا يتحقق في جنسين.

وعند الشافعي: منافع المدة تجعل موجودة وقت العقد كأنها أعيان قائمة، فلا يتحقق معنى النسبة، ولو تحقق فالجنس بانفراده لا يحرم النساء عنده. وتعليل من علل في هذه المسألة أن هذا في معنى بيع الدين بالدين؛ لأن المنفعتين معدومتان وقت العقد فكان بيع الكالئ بالكالئ، غير سديد؛ لأن الدين اسم لموجود في الذمة أخِّرَ بالأجل المضروب بتغيير مقتضى مطلق العقد، فأما ما لا وجود له وتأخر وجوده إلى وقت فلا يسمى دينا. اهـ.

ويبقى أن قول السائل: (ثم فيما بعد أنتفع بشقته) يفهم منه إضافة هذه الإجارة للمستقبل، و لن تكون عقب العقد، وهذا محل خلاف بين أهل العلم. فمنع منه الشافعية.

قال الشيرازي في «المهذب»: ما عقد على منفعة معينة، لا يجوز إلا حالاً. فإن كان على مدة لم يجز، إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان على عمل معين لم يجز إلا في الوقت الذي يمكن الشروع في العمل؛ لأن ‌إجارة العين كبيع العين، وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضها، فكذلك ‌الإجارة. اهـ.

ولكن صححه الجمهور.

قال الكاساني في بدائع الصنائع: الإجارة المضافة إلى زمان في المستقبل، بأن قال: أجرتك هذه الدار غدا، أو رأس شهر كذا، أو قال: أجرتك هذه الدار سنة أولها غرة شهر رمضان. جائزة في قول أصحابنا، وعند الشافعي: لا تجوز. اهـ.

وقال الرحيباني في مطالب أولي النهى: (ولا يشترط أن ‌تلي) ‌مدة ‌الإجارة (‌العقد، فتصح) إجارة عين (لسنة خمس في سنة أربع)؛ لأنها مدة يجوز ‌العقد عليها مع غيرها، فجاز ‌العقد عليها مفردة كالتي تلي ‌العقد. اهـ.

والراجح هو قول الجمهور، وعليه تُصحَّح كثيرٌ من المعاملات الشائعة في هذا العصر، كاستئجار غرف معينة في فندق، أو مقعد مخصوم في رحلة طيران معينة، ونحو ذلك، مما يكون في تاريخ لاحق في المستقبل.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني