الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التلقي والنظر والاتباع يؤدي إلى التوافق ويمنع من الاختلاف

السؤال

مرحبا أيها السادة.
عندما يصل الشخص إلى مرحلة الاجتهاد، ويريد تفسير آية تتعلق بصفات الله أو ذاته (اليد / الساق / العين). أحيانا يتبين له طريق التفويض، وأحيانا طريق التأويل. مع العلم أنه عندما يختار طريق التأويل، لا يكون قصده الابتعاد عن التجسيم، كما يقول بعض الناس، ولكن قصده أنه لا يعلم، هل قصد الله في تلك الآية ذاته أم شيئا آخر؟
بصيغة أخرى: لو اجتهد شخصان في تفسير آية: "يد الله مغلولة"، وكلاهما يفسران القرآن على ظاهره، فقد يتبين لأحدهما أن اليهود قصدوا باليد حقيقة لا مجازا، وقد يتبين للآخر أنه مجاز.
بصيغة ثالثة: كان لدي أصدقاء متفقهون في الدين والعقيدة، وكنا جميعا نتبع أقوال ابن تيمية. فقلت لهم: أليس من العجيب أنه نحن جميعا متطابقون في العقيدة تماما، فسألتهم سؤالا واحدا، وأنا أوجهه إليكم مع كامل احترامي إليكم: لو فرضا كنت معلما، وأوصلت 20 طالبا إلى مرحلة الاجتهاد بدون أن تجبرهم على قراءة كتاب ما يخص العقيدة، وأعطيتهم ورقة مؤلفة من 10 أسئلة في العقيدة (هل القرآن كلام الله حقيقة/ أين الله / هل لله أعين / ..)، وأعطيتهم مهلة سنة حتى يجيبوك على هذه الأسئلة، فهل أيها السيد الذي تجيبني على فتواي، هل تتوقع أن تكون إجابتهم لكل الأسئلة واحدة؟
الإجابة الطبيعية هي لا، ولكن كيف تفسر أن أعدادا هائلة من الناس تتبع نفس العقيدة، بحيث يشكلون طائفة. الإجابة بسيطة وهي أنهم جميعا قرؤوا نفس كتاب العقيدة. فوقتها اعتبرت كل من قرأ كتاب عقيدة فهو معتوه.
الرجاء عدم أخذ سؤالي بشكل شخصي. أنا عندما أريد سؤالا يتعلق بالدين، لا أستفسر إلا منكم فقط.
وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالأصل الذي ينبغي الانطلاق منه في تناول هذه القضية هو التفريق بين الدين -ولاسيما الأمور الاعتقادية المتعلقة بالغيب، وبين الأمور النظرية التي تخضع للفكر والذوق والتجرية. فالدين إنما يؤخذ بالتلقي، والتعليم من الوحي المنزل من عند الله، حيث تلقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلمه لأصحابه، ثم هم علموه للتابعين، وعلمه التابعون لأتباعهم، وهكذا ... فمبنى الدين على الاتباع، والتجافي عن الابتداع، وهذا يؤدي إلى التوافق والاتفاق، وينتج عن مخالفته نوع من الخلاف غير السائغ ولا المعتبر.

ثم مسائل الدين وأحكامه تتفاضل من حيث الرتبة، وأدلته تتفاوت من حيث الظهور والخفاء، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] وحكمة ذلك قد سبق لنا بيانها في الفتوى: 346519. وقد ترتب على هذا وجود نوع من الخلاف السائغ المعتبر.

وإذا تقرر هذا أمكننا القول بأن المسائل التي اتفق عليها الصحابة، وأئمة الدين في القرون المفضلة، لا يسوغ الخلاف فيها، وأن المجتهد إذا اجتهد في هذه المسائل سوف يصل للنتيجة نفسها إذا صحت عنده مصادر تلقي الأحكام ومناهج الاستدلال عليها.

وأما المسائل التي اختلفوا فيها؛ فهي محل النظر وتباين الاجتهاد. وراجع في ذلك الفتويين: 132935، 262315.

وبالنسبة للمثال الذي ذكره السائل: (لو كنت معلما، وأوصلت 20 طالبا إلى مرحلة الاجتهاد ... وأعطيتهم مهلة سنة ...)!
نقول: لا يصل المتعلم إلى مرحلة الاجتهاد في مسألة من المسائل حتى يلم بما يتعلق بها من نصوص الكتاب والسنة، وآثار الصحابة، وأقوال أهل العلم، ويعلم مواطن الاتفاق ومواضع الخلاف، وما يسوغ من ذلك، وما لا يسوغ. ومن بلغ هذه الرتبة فسوف يجيب عن هذه الأسئلة بالجواب نفسه! وهكذا كان أئمة العلم والهدى، يتفقون في هذه المسائل، برغم تباعد الأقطار، واختلاف الأعصار.

قال أبو المظفر السمعاني في «الانتصار لأصحاب الحديث» ونقله عنه قوام السنة الأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة»: أبى الله أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف، وقرنا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخذه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس من الدين المستقيم، والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث .. ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع ‌اختلاف ‌بلدانهم ‌وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، وفعلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا، ولا تفرقا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟! قال الله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وقال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين، وشيعا وأحزابا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني