الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين آية: "وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ" وعدم الإهلاك بعد رؤية انشقاق القمر

السؤال

لما طلب كفار قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم جبل الصفا ذهبًا، وافق النبي صلى الله عليه وسلم ربّه، فأوحى الله إليه: "إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة. وإن شئت أن تستأني بقومك، استأنيت بهم"، قال: "يا رب، استأني بهم"، والسؤال هو: أليس الله قد شقّ القمر نصفين، وهذه معجزة عظيمة؛ ورغم تكذيب كفار قريش بها بعدما سألوها ليؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لم يهلكهم الله عز وجل، فكيف نجمع بين هذا، وبين قوله تعالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا" (59)؟ أرجو الإجابة مع التفصيل، وشكرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن المراد بالآيات في قوله سبحانه: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا {الإسراء:59}، هي الآيات التي يقترحها المشركون، ويطلبونها بعينها، كما قال عنهم في هذه السورة نفسها: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا {الإسراء:90-93}.

وليس المراد بها الآيات الدالة على صدق الرسل، التي يقيمها الله سبحانه ابتداء بلا طلب من المشركين لها بخصوصها، قال ابن تيمية في الجواب الصحيح، لمن بدل دين المسيح: ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا أرسل نبيًّا، وأتى بآية دالة على صدقه؛ قامت بها الحجة، وظهرت بها المحجة، فمن طالبهم بآية ثانية؛ لم تجب إجابته إلى ذلك، بل وقد لا ينبغي ذلك ...

ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة، فيتابع -تعالى- بين الآيات، كما أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بآيات متعددة؛ لعموم دعوته، وشمولها؛ فإن الأدلة كلما كثرت، وتواردت على مدلول واحد؛ كان أوكد وأظهر، وأيسر لمعرفة الحق ...

وقد تقتضي الحكمة أن لا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال، كما ذكره الله في كتابه من أن الكفار كانوا يقترحون على الأنبياء آيات غير الآيات التي جاؤوا بها، فتارة يجيبهم الله إلى ذلك؛ لما فيه من الحكمة، والمصلحة، وتارة لا يجيبهم؛ لما في ذلك من المضرة، والمفسدة ...

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ربما طلب تلك الآيات رغبة منه في إيمانهم بها؛ فيجاب بأن الآيات لا تستلزم الهدى، بل تستلزم إقامة الحجة، وتوجب عذاب الاستئصال لمن كذّب بها...

وقال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} [الإسراء:59].

بيّن -سبحانه- أن ما منعه أن يرسل بالآيات إلا تكذيب الأولين بها الذي استحقوا به الهلاك، فإذا كذّب بها هؤلاء استحقّوا ما استحقه أولئك من عذاب الاستئصال، وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير، والحديث، وغيرها من كتب المسلمين، وهو معروف بالأسانيد الثابتة عن الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، فقد ذكر المفسرون ما رواه أهل التفسير، والحديث، والمسند، وغيرهم من حديث الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي عنهم الجبال حتى يزرعوا. قال: فقيل له: إن شئت تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال: لا، بل أستأني بهم»؛ فأنزل الله هذه الآية: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء:59]. اهـ.

وقال ابن القيم في شفاء العليل: وقوله: {وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلاّ أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ}، أي: آيات الاقتراح، لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي يقيمها هو -سبحانه- ابتداء... فأخبر -سبحانه- عن حكمته في الامتناع من إرسال رسله بآيات الاقتراح، والتشهّي، وهي أنها لا توجب الإيمان، فقد سألها الأولون، فلما أوتوها، كذبوا بها؛ فأهلكوا، فليس لهم مصلحة في الإرسال بها، بل حكمته -سبحانه- تأبى ذلك كل الإباء.

ثم نبه على ما أصاب ثمود من ذلك، فإنهم اقترحوا الناقة، فلما أعطوا ما سألوا؛ ظلموا، ولم يؤمنوا، فكان في إجابتهم إلى ما سألوا هلاكهم، واستئصالهم. اهـ.

وانشقاق القمر آية حصلت دون اقتراح من المشركين لها بخصوصها، كمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة، مثل تسبيح الحصى في كفه، وحنين الجذع لمفارقته، وسجود البعير له، ونبوع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام اليسير بتبريكه فيه، وإخبار ذراع الشاة إياه بأنها مسمومة، إلى غير ذلك من المعجزات.

ولا يشكل على هذا ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين؛ حتى رأوا حراء بينهما.

فليس في هذا الحديث أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشقّ لهم القمر، بل طلبوا آية دون تحديد.

وهناك وجه آخر لدفع الإشكال: وهو أن المقصود بالآيات في قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ .. {الإسراء:59}، هي الآيات المقترحة الحسية التي يشترك في رؤيتها الناس كلهم عامّتهم وخاصّتهم، وأما انشقاق القمر فلم يكن بتلك المنزلة؛ فقد وقع ساعة من ليل، ولم يره إلا بعض قريش، قال ابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين: واعْلَم أن انْشِقاق القَمَر من الآيات الَّتِي فاق بها على الأنْبِياء، فَلَيْسَ لَهُم مثلها؛ لِأنَّهُ أمر خارج عَن الأُمُور الأرضية.

وقد اعْترض قوم، فَقالُوا: كَيفَ نقل هَذا نقل آحاد، والخلق قد رَأوْهُ؟

فالجَواب: إن هَذا أمر طلبه قوم من أهل مَكَّة؛ فَأراهُم تِلْكَ الآيَة لَيْلًا، وأكْثر النّاس نيام، وفِي أسمارهم، وأشغالهم، وإنَّما رَآهُ القَلِيل مِمَّن لم يطْلب، ولَو ظهر لجَمِيع الخلق، ثمَّ لم يُؤمنُوا؛ لبغتوا بِالعَذابِ، كَما جرى للأمم المكذبة بِالآياتِ الحسية، قالَ عز وجل: {وما منعنا أن نرسل بِالآياتِ إلّا أن كذب بها الأولونَ} [الإسْراء:59]، المَعْنى: كذبُوا فأهلكوا، ولَو أرسلناها فَكَذَّبْتُمْ لأهلكتكم. اهـ.

وقال الخطابي -كما في شرح الشفا لملا قاري-: الحكمة في وقوعها ليلًا، أن من طلبها من الرسول صلى الله عليه وسلم بعض من قريش؛ فوقع لهم ذلك ليلًا، ولو أراد الله تعالى أن تكون هذه المعجزة نهارًا لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان، بحيث يشترك فيها الخاصة والعامة؛ لفعل ذلك؛ ولكن الله تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمة أتاها نبيها بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا، وخصّ هذه الأمة بالرحمة؛ فجعل آية نبيها عقلية؛ وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم. اهـ.

وراجع المزيد في الفتاوى: 49312، 53186، 427240.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني