الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التورية عند الحلف

السؤال

لو استحلفني قائم الجامعة التي أنا طالب فيها بالقسم على احترام، والانقياد للقوانين والنظم المخالف بعضها للشريعة الإسلامية، فهل يجوز لي التورية في القسم؟ وهل النية المعتبرة هي نيتي أم نية المستحلف؟ علمًا أنني من الممكن أن أضطرّ عند التخرّج من الجامعة إلى الحلف،
والتورية بأن أقول: "أقسم بالله على احترام القوانين والنظم، إذا وافق ذلك رضا الله" مع انخفاض الصوت عند آخر الكلام. وشكرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا حرج عليك في التورية عند الحلف على احترام قوانين الجامعة، بأن تنوي بذلك ما لا يخالف الشريعة من تلك القوانين، فإن التورية الممنوعة في اليمين هي فيما إذا كان الحالف ظالمًا.

وأما إن لم يكن ظالمًا؛ فلا حرج في التورية والتأويل في اليمين، قال ابن قدامة في المغني: ولا يخلو حال الحالف المتأوّل من ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يكون مظلومًا -مثل من يستحلفه ظالم على شيء، لو صدقه لظلمه، أو ظلم غيره، أو نال مسلمًا منه ضرر-؛ فهذا له تأويله.

قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له امرأتان، اسم كل واحدة منهما فاطمة، فماتت واحدة منهما، فحلف بطلاق فاطمة، ونوى التي ماتت؟ قال: إن كان المستحلف له ظالمًا؛ فالنية نية صاحب الطلاق، وإن كان المطلّق هو الظالم؛ فالنية نية الذي استحلف.

وقد روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدّو له، فتحرّج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي، فخلّي سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: «أنت أبرّهم، وأصدقهم، المسلم أخو المسلم» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»، يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غير ما عناه.

قال محمد بن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. يعني لا يحتاج أن يكذب؛ لكثرة المعاريض، وخصّ الظريف بذلك؛ يعني به الكيّس الفطن؛ فإنه يفطن للتأويل؛ فلا حاجة به إلى الكذب.

الحال الثاني: أن يكون الحالف ظالمًا -كالذي يستحلفه الحاكم على حقّ عنده-؛ فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلِف، ولا ينفع الحالف تأويله؛ وبهذا قال الشافعي. ولا نعلم فيه مخالفًا؛ فإن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» رواه مسلم، وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف». رواه مسلم. وقالت عائشة: اليمين على ما وقع للمحلوف له.

ولأنه لو ساغ التأويل؛ لبطل المعنى المبتغى باليمين؛ إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود؛ خوفًا من عاقبة اليمين الكاذبة، فمتى ساغ التأويل له؛ انتفى ذلك، وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق، ولا نعلم في هذا خلافًا، قال إبراهيم، في رجل استحلفه السلطان بالطلاق على شيء، فورَّى في يمينه إلى شيء آخر؛ أجزأ عنه، وإن كان ظالمًا؛ لم تجزئ عنه التورية.

الحال الثالث: ألا يكون ظالمًا ولا مظلومًا؛ فظاهر كلام أحمد أن له تأويله، فروي أن مهنا كان عنده، هو والمروذي وجماعة، فجاء رجل يطلب المروذي، ولم يرد المروذي أن يكلّمه، فوضع مهنا أصبعه في كفّه، وقال: ليس المروذي ها هنا، وما يصنع المروذي ها هنا؟ يريد: ليس هو في كفّه، ولم ينكر ذلك أبو عبد الله.

وروي أن مهنا قال له: إني أريد الخروج -يعني السفر إلى بلده- وأحبّ أن تسمعني الجزء الفلاني، فأسمعه إياه، ثم رآه بعد ذلك، فقال: ألم تقل: إنك تريد الخروج؟ فقال له مهنا: قلت لك: إني أريد الخروج الآن؟ فلم ينكر عليه، وهذا مذهب الشافعي، ولا نعلم في هذا خلافًا، روى سعيد، عن جرير، عن المغيرة، قال: كان إذا طلب إنسان إبراهيم، ولم يرد إبراهيم أن يلقاه، خرجت إليه الخادم، وقالت: اطلبوه في المسجد.

وقال له رجل: إني ذكرت رجلًا بشيء، فكيف لي أن أعتذر إليه؟ قال: قل له: والله، إن الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح، ولا يقول إلا حقًّا، ومزاحه أن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه، وهو التأويل، فقال لعجوز: «لا تدخل الجنة عجوز»، يعني أن الله ينشئهن أبكارًا عربًا أترابًا.

وقال أنس: إن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، احملني. فقال رسول الله: «إنا حاملوك على ولد الناقة". قال: وما أصنع بولد الناقة؟ قال: "هل تلد الإبل إلا النوق؟». رواه أبو داود.

وقال لامرأة وقد ذكرت له زوجها: أهو الذي في عينه بياض؟ فقالت: يا رسول الله، إنه لصحيح العين. وأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي حول الحدق.

وقال لرجل احتضنه من ورائه: «من يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله، تجدني إذن كاسدًا. قال: لكنك عند الله لست بكاسد» وهذا كله من التأويل، والمعاريض، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، فقال: «لا أقول إلا حقًّا».

وروي عن شريح أنه خرج من عند زياد، وقد حضره الموت، فقيل له: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته يأمر وينهى. فلما مات، قيل له: كيف قلت ذلك؟ قال: تركته يأمر بالصبر، وينهى عن البكاء، والجزع.

ويروى عن شقيق، أن رجلًا خطب امرأة، وتحته أخرى، فقالوا: لا نزوّجك حتى تطلّق امرأتك. فقال: اشهدوا أني قد طلّقت ثلاثًا؛ فزوّجوه؛ فأقام على امرأته، فقالوا: قد طلّقت ثلاثًا، قال: ألم تعلموا أنه كان لي ثلاث نسوة، فطلقتهنّ، قالوا: بلى قال: قد طلّقت ثلاثًا، فقالوا: ما هذا أردنا، فذكر ذلك شقيق لعثمان؛ فجعلها نيته.

وروي عن الشعبي، أنه كان في مجلس، فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به، والثناء عليه، فقال الشعبي: إن له بيتًا، وشرفًا، فقيل للشعبي بعدما ذهب الرجل: تعرفه؟ قال: لا، ولكنه نظر إليّ، قيل: فكيف أثنيت عليه؟ قال: شرفه أذناه، وبيته الذي يسكنه...

وأخذ الخوارج رافضيًّا، فقالوا له: تبرّأ من عثمان، وعليّ، فقال: أنا من عليّ، ومن عثمان بريء.

فهذا وشبهه هو التأويل الذي لا يعذّر به الظالم، ويسوغ لغيره مظلومًا كان أو غير مظلوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في المزاح، من غير حاجة به إليه. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى: 131048.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني