الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم إخبار التائب بما كان منه من معاصي للاقتداء بتوبته

السؤال

كنت وصُحبة لي من العُصاة، وكنا نكلم بعضنا بعضا عنها ونعرفها، والعياذ بالله. قد هداني الله, والحمد لله, وتبت منها، ومن جهري بها. فهل يجوز أن أجهر بتوبتي منها معهم، وأحدثهم بما أعانني على التوبة من سبلٍ لعلهم يهتدون؟ خصوصا أن إحدى تلك السبل كانت المحافظة والانتظام في الصلاة، وأظن أن أحدهم تارك لها، فأريد أن أحدثه عنها، فهل محاولة تقريب أحد إلى أمرٍ عظيمٍ كالصلاة، وإلى ترك المعاصي يجيز التكلم عن توبتي وعن طرقها، والاستدلال بأن تلك الطرق أفلحت معي؟ هل في ذلك شيء من الرياء، أو المجاهرة بالمعصية؟ وهل بتوبتي من جهري بالذنب يزول الوعيدُ بِعَدَمِ العَفوِ؟ وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنه لا حرج في تحدثك عن توبتك، وما وجدته من الهداية، لا سيما إذا ترتب على ذلك دعوة زملائك للاقتداء بك، ولا يعتبر ذلك من الرياء، ولا من المجاهرة بالمعاصي، ما دمت لم تقصد بذلك رياء.

فالرياء الذي وردت النصوص في تحريمه، والتحذير منه، إنما هو طلب المنزلة في قلوب الخلق بالعبادة.

قال ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: وحد الرياء المذموم إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى، كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وكماله حتى يحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء. اهـ

وقال أيضا: وقد يمدح الإظهار فيما يتعذر الإسرار فيه كالغزو والحج والجمعة والجماعة، فإظهار المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شائبة رياء، والحاصل أنه متى خلص العمل من تلك الشوائب، ولم يكن في إظهاره إيذاء لأحد، فإن كان فيه حمل للناس على الاقتداء والتأسي به فالإظهار أفضل، لأنه مقام الأنبياء ووراثهم، ولا يخصون إلا بالأكمل، ولأن نفعه متعد، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ـ وإن اختل شرط من ذلك فالإسرار أفضل. انتهى.

وقال ابن حجر العسقلاني في الفتح عند الكلام على حديث: - من يرائي يرائي الله به-: وفي الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة. قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به، أو لينتفع به؛ ككتابة العلم، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة: لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي. قال الطبري: كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم. قال فمن كان إماما يستن بعمله عالما بما لله عليه قاهرا لشيطانه، استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف انتهى.

وقال الخادمي الحنفي في بريقة محمودية: وبالجملة الإخفاء في العبادات التي لا يلزم إظهارها، ولم يسن أفضل من الإظهار لخلوه عن احتمال الرياء، ويكون معاملة خاصة بينه وبين مولاه إلا عند التيقن، فلا يفيد الظن فضلا عن الشك بقصد التعليم لمن لا يعلم والاقتداء يشمل التعليم لمن يعلم، ولكن لا يعمل. فالإظهار حينئذ أفضل لأنه عبادة متعدية، وفيه إيقاظ النائمين، وإرشاد الغافلين، وترغيب للخير فلا ينبغي أن يسد باب إظهار العمل. انتهى

وقد ذكر بعض أهل العلم أن المجاهرة المنهي عنها هي الإخبار بالمعاصي السابقة افتخارا بها وإشاعة للفاحشة، وأما ذكرها لحاجة كالاستفتاء عما يعين على تركها، أو التحدث بنعمة الهدى والتوفيق، أو الترغيب في الاقتداء به في التوبة؛ فهو مباح. واستدلوا لذلك بما في صحيح مسلم عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلا، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا؟ أما بشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. إني كنت على أطباق ثلاث. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني. ولا أحب إليَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته. فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال فقبضت يدي. قال "ما لك يا عمرو؟ " قال قلت: أردت أن أشترط. قال "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي. قال "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أجل في عيني منه. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له. ولو سئلت أن أصفه ما أطقت. لأني لم أكن أملأ عيني منه. ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار. فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور. ويقسم لحمها. حتى أستأنس بكم. وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. اهـ وجاء في شرح النووي لصحيح مسلم: وقوله الا المجاهرين هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها وكشفوا ما ستر الله تعالى عليهم فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة. اهـ
وقال النووي في الأذكار: يكره للإنسان إذا ابتلي بمعصية أو نحوها أن يخبر غيره بذلك، بل ينبغي أن يتوب إلى الله تعالى فيقلع عنها في الحال، ويندم على ما فعل، ويعزم أن لا يعود إلى مثلها أبدا، فهذه الثلاثة هي أركان التوبة، لا تصح إلا باجتماعها، فإن أخبر بمعصيته شيخه أو شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجا من معصيته، أو ليعلمه ما يسلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له، أو نحو ذلك، فلا بأس به، بل هو حسن، وإنما يكره إذا انتفت هذه المصلحة. اهـ

وقال الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 160): قال الغزالي : الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على وجه السؤال والاستفتاء بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان، فأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليه. اهـ

وانظر الفتويين: 10992، 295945.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني