الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل الظالم يأخذ كل حسنات المظلوم ويضع سيئاته عليه يوم القيامة؟

السؤال

هل حقا أن المظلوم يأخذ حقه منك يوم القيامة حتى يرضى؟ يعني: لو أخذت حق رجل واحد، أو ظلمته في الدنيا، فإن هذا الرجل الواحد سيأخذ كل حسناتك يوم القيامة، ويطرح عليك كل سيئاته، فهذا سبب لي نوعا من اليأس من العمل، لأنني مهما عملت وعملت، فإنني إن ظلمت رجلا واحدا فكل أعمالي ستذهب هباء منثورا، لأنه سيأخذ كل حسناتي حتى يرضى، ولن يرضى حتى يأخذها كلها، ويطرح كل سيئاته علي، فما فائدة الإكثار من الأعمال الصالحة إن كان ظلم رجل واحد كفيل بأن يذهب كل أعمال عمري، وتصبح كلها هباء منثورا، وكأنني لم أعمل شيئا، وكأنني لم أتعب في الدنيا، وكأنني لم يصبني ابتلاء، وكأنني لم أعمل شيئا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ذكره السائل ليس بصحيح! فإن حقوق العباد إذا أخذت يوم القيامة، إنما تؤخذ قصاصا، أي بالعدل والقسط، فكل مظلوم يأخذ حقه حينئذ بقدر مظلمته، دون زيادة، فلا المظلوم يأخذ فوق حقه، ولا الظالم يؤخذ منه فوق ما عليه من حق، وإلا كان ذلك ذاته من الظلم، وقد قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {يس: 54}.

والأصل في ذلك هو قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ {الأنبياء: 47}.

قال ابن الجوزي في زاد المسير: قوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ـ أي: لا يُنْقَص محسن من إِحسانه، ولا يُزاد مسيء على إِساءته. اهـ.
وعن عائشة -رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن لي مملوكين يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم، وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ قال: يحسب ما خانوك، وعصوك، وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ كتاب الله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال.. الآية، فقال الرجل: والله يا رسول الله؛ ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدكم أنهم أحرار كلهم. رواه أحمد، والترمذي، وصحح الألباني إسناده.
ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه، من عرضه، أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري.
والشاهد منه هو قوله صلى الله عليه وسلم: بقدر مظلمته.

قال الدماميني في مصابيح الجامع: قال المهلب: اختلف فيمن كانت بينه وبين آخر معاملة، فحلله، فقيل: ذلك براءة له في الدارين، وإن لم يبين قدره، وقيل: لا بد من العلم بقدره، وإلا، فلا تصح البراءة، قال: والحديث حجة لهذا القول؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: أُخذ منه بقدر مظلمته ـ يدل على أنه يجب أن يكون معلومَ القدر، ووهَّمه ابن المنير؛ لأن التقدير ذُكر حيث يقتص المظلوم من الظالم، ‌فيأخذ ‌بقدر ‌حقه، وهذا متفق عليه؛ إذ لا يتجاوز المظلوم قدرَ حقه أصلاً، وإنما الكلام إذا أسقط الحق، هل يشترط معرفته بقدره، أو لا؟. اهـ.
والمقصود هو قول ابن المنير: التقدير ذُكر حيث يقتص المظلوم من الظالم، ‌فيأخذ ‌بقدر ‌حقه، وهذا متفق عليه؛ إذ لا يتجاوز المظلوم قدرَ حقه أصلاً.
ومع ذلك، فإن الله تعالى قد يُرضي المظلوم يوم القيامة، ويعوضه عن مظلمته، ويعفو عن الظالم، ويغفر له، بصدق توبته، وأعماله الصالحة الأخرى، وراجع في تفصيل ذلك الفتوى: 371116.

وأما ما ورد في كون المظلوم يأخذ من حسنات الظالم حتى يرضى، فهذا إنما صح في صور معينة، يشتد فيها الظلم ويقبح فيها التعدي، كالتشديد الوارد في شأن نساء المجاهدين في سبيل الله تعالى، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟.

وفي رواية: فيقال: فخذ من حسناته ما شئت. رواه مسلم.

وزاد في رواية النسائي: ما ظنكم؟ ترون ‌يدع ‌له ‌من ‌حسناته شيئا؟.

قال أبو العباس القرطبي في المفهم: ظَهَرَ مِن هذا الحديث: أن خيانةَ الغازي في أهله أعظمُ من كل خيانةٍ؛ لأن ما عداها لا يخير في أخذ كل الحسنات؛ وإنما يأخذُ بكلّ خيانةٍ قدرًا معلومًا من حسنات الخائن. اهـ.
ومع ذلك فيمكن تقييد أخذ جميع حسنات المتعدي على نساء المجاهدين بالقدر المباح، والإمكان، ولذلك قال القاضي عياض في إكمال المعلم: فما ‌ظنكم ـ يعني لما ترون في رغبته في أخذ حسناته، والاستكثار منها في ذلك المقام، أي إنه لا يبقي له شيئا منها إن أمكنه ذلك، وأبيح له. اهـ.

وعلى أية حال: فباب التوبة مفتوح من كل ذنب، وقد قال تعالى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}.

وقد ذكر الغزالي في كتاب: منهاج العابدين ص: 76ـ 78 ـ كيفية التوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الناس، وقال: هذا أشكل وأصعب، وهي أقسام، قد تكون في المال، أو في النفس، أو في العرض، أو في الحرمة، أو الدين ... وأما الحرمة: بأن خنته في أهله، أو ولده، أو نحوه، فلا وجه للاستحلال والإظهار؛ فإنه يولد فتنة وغيظا، بل تتضرع إلى الله -سبحانه- ليرضيه عنك، ويجعل له خيرا كثيرا في مقابلته، فإن أمنت الفتنة والهيج -وهو نادر- فتستحل منه. اهـ.
وذكر تفصيل ذلك، ثم قال: وجملة الأمر، فما أمكنك من إرضاء الخصوم عملت، وما لم يمكنك راجعت الله سبحانه وتعالى بالتضرع، والصدق، ليرضيه عنك، فيكون ذلك في مشيئة الله تعالى يوم القيامة، والرجاء منه بفضله العظيم، وإحسانه العميم: أنه إذا علم الله الصدق من قلب العبد، فإنه سبحانه يرضي خصماءه من خزانة فضله. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني