الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مشاهد الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب

السؤال

أصلي صلاتي في المنزل، كقيام الليل، أو إذا لم ألحق الجماعة في المسجد، وعندما أصلي منفردًا أتخيل أني إمام، وورائي مصلون، ولذلك أحسِّن من صلاتي وتلاوتي. فهل تعد هذه بدعة ورياءً، حتى وإن لم يكن هناك من يشاهدني؟ وهل تصح صلاتي؟ وماذا أفعل إذا كنت أحب أن أكون إمامًا، وإن لم أختم القرآن الكريم كاملًا، لمجرد أني أحب أن أكون داعيًا إلى الله؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا شكَّ أن الصفة التي ذكرتها لتصلح من صلاتك إذا صليت وحدَك غير شرعية؛ فإنَّ المطلوب من العبد أن يُحَسِّن صلاتَه ابتغاء مرضاة الله -تعالى-، وأن لا يكون الباعث له على تحسينها هو نظر الناس إليه؛ فإنَّ رضاهم لا ينفعه، وذمهم لا يضرُّه، بل الذي يَزين مدحُه، ويَشين ذمُّه هو الله -تعالى- وحده!

قال ابن القيم في رسالة بعث بها إلى أحد إخوانه: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُعلم أَنَّ الصَّلَاة الَّتِي تَقَر بهَا الْعين، ويستريح بهَا الْقلب، هِيَ الَّتِي تجمع سِتَّة مشَاهد:

المشهد الأول: الْإِخْلَاص، وَهُوَ أَن يكون الْحَامِل عَلَيْهَا والداعي إِلَيْهَا رَغْبَة العَبْد فِي الله، ومحبته لَهُ، وَطلب مرضاته، والقرب مِنْهُ، والتودد إِلَيْهِ، وامتثال أمره، بِحَيْثُ لَا يكون الْبَاعِث لَهُ عَلَيْهَا حظًا من حظوظ الدُّنْيَا الْبَتَّة، بل يَأْتِي بهَا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى، محبَّة لَهُ، وخوفًا من عَذَابه، ورجاء لمغفرته وثوابه.

المشهد الثَّانِي: مشْهد الصدْق والنصح، وَهُوَ أَن يفرغ قلبه لله فِيهَا، ويستفرغ جهده فِي إقباله فِيهَا على الله، وَجمع قلبه عَلَيْهَا، وإيقاعها على أحسن الْوُجُوه وأكملها ظَاهرًا وَبَاطنًا، فَإِن الصَّلَاة لَهَا ظَاهر وباطن، فظاهرها الْأَفْعَال الْمُشَاهدَة والأقوال المسموعة، وباطنها الْخُشُوع والمراقبة، وتفريغ الْقلب لله، والإقبال بكليته على الله فِيهَا، بِحَيْثُ لَا يلْتَفت قلبه عَنهُ إِلَى غَيره، فَهَذَا بِمَنْزِلَة الروح لَهَا، وَالْأَفْعَال بِمَنْزِلَة الْبدن، فَإِذا خَلَت من الروح - كَانَت كبدن لَا روح فِيهِ. أَفلا يستحي العَبْد أَن يواجه سَيّده بِمثل ذَلِك؟ وَلِهَذَا تُلَّفُّ كَمَا يُلَّفُّ الثَّوْب الْخَلِق وَيضْرب بهَا وَجه صَاحبهَا، وَتقول: ضيعك الله كَمَا ضيعتني! وَالصَّلَاة الَّتِي كمُل ظَاهرُهَا وباطنها - تصعد وَلها نور وبرهان كنور الشَّمْس، حَتَّى تُعرض على الله فيرضاها ويقبلها، وَتقول: حفظك الله كَمَا حفظتني!

المشهد الثَّالِث: مشْهد الْمُتَابَعَة والاقتداء، وَهُوَ أَن يحرص كل الْحِرْص على الِاقْتِدَاء فِي صلَاته بِالنَّبِيِّ -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، وَيُصلي كَمَا كَانَ يُصَلِّي، ويُعرض عَمَّا أحدث النَّاس فِي الصَّلَاة من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، والأوضاع الَّتِي لم يُنْقل عَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- شَيْء مِنْهَا وَلَا عَن أحد من أصحابه.

المشهد الرَّابِع: مشْهد الْإِحْسَان، وَهُوَ مشْهد المراقبة وَهُوَ أَن يعبد الله كَأَنَّهُ يرَاهُ، وَهَذَا المشهد إِنَّمَا ينشأ من كَمَال الْإِيمَان بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته حَتَّى كَأَنَّهُ يرى الله -سُبْحَانَهُ- فَوق سمواته مستويًا على عَرْشه يتَكَلَّم بأَمْره وَنَهْيه وَيُدبر أَمر الخليقة فَينزل الْأَمر من عِنْده ويصعد إِلَيْهِ وَتعرض أَعمال الْعباد وأرواحهم عِنْد الموافاة عَلَيْهِ، فَيشْهد ذَلِك كُله بِقَلْبِه، وَيشْهد أسماءه وَصِفَاته، وَيشْهد قيومًا حَيًا سميعًا بَصيرًا عَزِيزًا حكيمًا آمرًا ناهيًا، يحب وَيبغض ويرضى ويغضب، وَيفْعل مَا يَشَاء، وَيحكم مَا يُرِيد، وَهُوَ فَوق عَرْشه لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَعمال الْعباد وَلَا أَقْوَالهم وَلَا بواطنهم، بل يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور!

ومشهد الْإِحْسَان أصل أَعمال الْقُلُوب كلهَا، فَإِنَّهُ يُوجب الْحيَاء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سُبْحَانَهُ والذل لَهُ، وَيقطع الوسواس وَحَدِيث النَّفس، وَيجمع الْقلب والهم على الله. فحظ العَبْد من الْقرب من الله على قدر حَظه من مقَام الْإِحْسَان، وبحسبه تَتَفَاوَت الصَّلَاة، حَتَّى يكون بَين صَلَاة الرجلَيْن من الْفضل كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما وَاحِد!

المشهد الْخَامِس: مشْهد الْمِنَّة، وَهُوَ أَن يشْهد أَن الْمِنَّة لله -سُبْحَانَهُ- كَونه أَقَامَهُ فِي هَذَا الْمقَام وَأَهَّلَه لَهُ، ووفقه لقِيَام قلبه وبدنه فِي خدمته، فلولا الله -سُبْحَانَهُ- لم يكن شَيْء من ذَلِك، كَمَا كَانَ الصَّحَابَة يَحْدُون [يُنْشِدون] بَين يَدي النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، فَيَقُولُونَ: (وَالله لَوْلَا الله مَا اهتدينا ... وَلَا تصدَّقنا وَلَا صلينَا). قَالَ الله تَعَالَى {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن كُنْتُم صَادِقين} فَالله -سُبْحَانَهُ- هُوَ الَّذِي جعل الْمُسلم مُسلمًا، وَالْمُصَلي مُصَليًا، كَمَا قَالَ الْخَلِيل -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: {رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك} وَقَالَ {رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة وَمن ذريتي}. فالمنة لله وَحده فِي أَن جعل عَبده قَائِما بِطَاعَتِهِ، وَكَانَ هَذَا من أعظم نعمه عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله} وَقَالَ: {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون}. وَهَذَا المشهد من أعظم الْمشَاهد وأنفعها للْعَبد، وَكلما كَانَ العَبْد أعظم توحيدًا - كَانَ حَظه من هَذَا المشهد أتم. وَفِيه من الْفَوَائِد أَنه يحول بَين الْقلب وَبَين الْعجب بِالْعَمَلِ ورؤيته؛ فَإِنَّهُ إِذا شهد أَن الله -سُبْحَانَهُ- هُوَ المانُّ بِهِ الْمُوفق لَهُ الْهَادِي إِلَيْهِ - شغله شُهُود ذَلِك عَن رُؤْيَته والإعجاب بِهِ.

المشهد السَّادِس: مشْهد التَّقْصِير، وَأَن العَبْد لَو اجْتهد فِي الْقيام بِالْأَمر غَايَة الِاجْتِهَاد، وبذل وَسعه فَهُوَ مقصر، وَحقّ الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ أعظم، وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يُقَابل بِهِ من الطَّاعَة والعبودية والخدمة فَوق ذَلِك بِكَثِير، وَأَن عَظمته وجلاله -سُبْحَانَهُ- يَقْتَضِي من الْعُبُودِيَّة مَا يَلِيق بهَا. انتهى باختصار.

وأما ما صليته سابقًا على هذه الصفة التي ذكرتها في سؤالك، فنرجو أن تكون مجزئة، ومُسقِطة للمطالبة بها ثانية، لكن أجرها -على كل حال- لن يكون كأجر مَن لم يلحظ في صلاته إلا الله -تعالى-!

وأمَّا حُبك لإمامة الناس في الصلاة لتحصيل أجر الإمام، وأجر الدعوة إلى الله -تعالى-؛ فهذا من المطالب العالية، إذا لم تَشُبه شائبة الرياء، والسمعة، والرغبة في العلو في الأرض.

وقد كان من مطالب عباد الله المخلَصين التي مدحهم الله تعالى عليها: الرغبةُ في أن يكونوا قدوة، يتبعهم الناس في فعل الخير.

قال الرازي في تفسيره لقول الله -تعالى- عن عباد الرحمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان: 74] - قال: فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاسَةَ فِي الدِّينِ يَجِبُ أَنْ تُطْلَبَ وَيُرْغَبَ فِيهَا، قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [سورة الشُّعَرَاءِ: 84]. انتهى.

ويتأكد مدح طلب إمامة الناس في الصلاة لمن صحَّت نيته، أنه يحملُ طالبها على تتميم نقصه، وإصلاح حاله، والمبادرة للمسجد بعد سماع النداء للصلاة. وانظر للفائدة الفتويين: 49364، 475810.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني