الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

جاء في فتواكم رقم 12870 ودوران الأرض حول نفسها، ثم حول المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية بأكملها حول المجرة، كل ذلك أضحى حقيقة علمية... فبناءً على ماذا أضحى كل هذا حقيقة علمية؟ هل لأنه كلام متواتر؟ وهل هذا فعلا من قطعي العقل؟ لقد جاء في فتاوى العلامة ابن عثيمين رحمه الله (المجلد الأول) ما نصهسئل فضيلة الشيخ : عن دوران الشمس حول الأرض ؟ فأجاب بقوله: ظاهر الأدلة الشرعية تثبت أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وبدورتها يحصل تعاقب الليل والنهار على سطح الأرض وليس لنا أن نتجاوز ظاهر هذه الأدلة إلا بدليل أقوى من ذلك يسوغ لنا تأويلها عن ظاهرها. ومن الأدلة على أن الشمس تدور على الأرض دوراناً يحصل به تعاقب الليل والنهار ما يلي:1.قال الله تعالى عن إبراهيم في محاجته لمن حاجه في ربه : (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) (1). فكون الشمس يؤتى بها من المشرق دليل ظاهر على أنها التي تدور على الأرض.2.وقال أيضاً عن إبراهيم : (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون) (2). فجعل الأفول من الشمس لا عنها ولو كانت الأرض التي تدور لقال : (فلما أفل عنها).3.قال تعالى : (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) (3) . فجعل الازورار والقرض من الشمس وهو دليل على أن الحركة منها ولو كانت من الأرض لقال : يزاور كهفهم عنها، كما أن إضافة الطلوع والغروب إلى الشمس يدل على أنها هي التي تدور وإن كانت دلالتها أقل من دلالة قوله: (تزاور ، تقرضهم). 4.وقال تعالى : (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) (3) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدورون في فلكة كفلكة المغزل . اشتهر ذلك عنه.5.وقال تعالى : (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً) (4). فجعل الليل طالباً للنهار، والطالب مندفع لاحق، ومن المعلوم أن الليل والنهار تابعان للشمس.6.وقال تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار) (5). فقوله: (يكور الليل على النهار) أي يديره عليه ككور العمامة دليل على أن الدوران من الليل والنهار على الأرض ولو كانت الأرض التي تدور عليهما لقال : (يكور الأرض على الليل والنهار) . وفي قوله : (كل يجري لأجل مسمى) المبين لما سبقه دليل على أن الشمس والقمر يجريان جرياً حسياً مكانياً لأن تسخير المتحرك بحركته أظهر من تسخير الثابت الذي لا يتحرك.7.وقال تعالى : (والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها) (6). ومعنى (تلاها) أتى بعدها وهو دليل على سيرهما ودورانهما على الأرض ولو كانت الأرض التي تدور عليهما لم يكن القمر تالياُ للشمس بل كان تالياً لها أحياناً وتالية له أحياناً لأن الشمس أرفع منه والاستدلال بهذه الآية يحتاج إلى تأمل.8.وقال تعالى : (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) (7). فإضافة الجريان إلى الشمس وجعله تقديراً من ذي عزة وعلم يدل على أنه جريان حقيقي بتقدير بالغ، بحيث يترتب عليه اختلاف الليل والنهار والفصول ، وتقدير القمر منازل يدل على تنقله فيها ولو كانت الأرض التي تدور لكان تقدير المنازل لها من القمر لا للقمر . ونفي إدراك الشمس للقمر وسبق الليل للنهار يدل على حركة اندفاع من الشمس والقمر والليل والنهار.9.وقال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وقد غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها تذهب فتسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، فيوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها . أو كما قال صلى الله عليه وسلم متفق عليه فقوله: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. ظاهر جداً في أنها تدور على الأرض وبدورانها يحصل الطلوع والغروب.10.الأحاديث الكثيرة في إضافة الطلوع والغروب والزوال إلى الشمس فإنها ظاهرة في وقوع ذلك منها لا من الأرض عليها.ولعل هناك أدلة أخرى لم تحضرني الآن ولكن فيما ذكرت فتح باب وهو كاف فيما أقصد. والله الموفق.انتهى كلام العلامة ابن عثيمين.فأرجو الإيضاح والترجيحوجزاكم الله خيرا

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فليس في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ما ينفي حركة الأرض ودورانها أو يثبت سكونها واستقرارها، وهناك آيات ذكر بعض المفسرين أنها تدل إجمالاً على حركة الأرض ودورانها... وقد تواترت الأخبار من علماء الفلك المسلمين وغير المسلمين أن الأرض تدور وتتحرك كغيرها من الكواكب المبثوثة في هذا الكون، ومن المعلوم -كما هو مقرر في علم الأصول- أن من الأخبار المقطوع بها خبر التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون من المسلمين بل يجوز أن يكون من المسلمين ومن غيرهم، قال الشيخ سيدي عبد الله في المراقي (ألفية الأصول):

واقطع بصدق خبر التواتر * وسو بين مسلم وكافر

واللفظ والمعنى، وذاك خبر * من عادة كذبهم منحظر.

فلا تكاد اليوم تطالع كتابا يتحدث عن هذا الموضوع إلا وجدته يقرر هذه الحقيقة.... وهكذا الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام وأحاديث أهل الاختصاص، يقول الدكتور حماد العبيدي في كتابه: الكون من الذرة إلى المجرة (الأرض هي الكوكب السيار الثالث من كواكب المجموعة الشمسية.... وتتميز عن كواكب المجموعة كلها بصلاحيتها للحياة...) ثم يقول: تسبح الأرض بنا في الفضاء كأنها سفينة، وسقفها هو غلافها الجوي، وهي مكيفة بالطاقة الشمسية.... وعند سيرها في دورانها حول الشمس تسير مهتزة متمايلة وتبدو وكأنها تتدرج إلى الوراء ذلك أنها تدور ضد عقارب الساعة وبسرعة تزيد عن (23) كم في الثانية فكأنها صاروخ عابر للقارات، ورغم هذه السرعة المدهشة فإننا لا نشعر بشيء منها، لأن قوة جاذبية الأرض وثقل ضغطها الجوي على رؤوسنا يثبتنا على سطحها تثبيتا يجعلنا كأننا جزء من أديمها، وذلك من عجيب صنع الله تعالى.

هذه الدورة للأرض حول الشمس هي التي تنتج عنها الفصول الأربعة، وتتم في سنة هي السنة الشمسية التي يجري الحساب بها في سائر الأنشطة والأعمال التي يقوم بها الناس، وهناك دورة ثانية للأرض تتم في نفس الوقت مع دورانها حول الشمس، هذه الدورة هي دورتها حول نفسها من الغرب إلى الشرق في اتجاه عقارب الساعة بسرعة (1609) كم في الساعة وتكملها في أربع وعشرين ساعة وينشأ عنها الليل والنهار.

وهذا ما درج عليه علماء التفسير في هذا العصر، حيث يقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه التفسير المنير: وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار نصف قطره (93) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل شهر في مدار نصف قطره (24) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة.

وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث خسوف الشمس أو كسوف القمر، كما قال الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. كأنه أخبر أن كل كوكب سيار يدور...

ويقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن: ..... إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس، وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض، وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة... هي تقديرات من (العزيز) ذي السلطان القادر (العليم) ذي العلم الشامل..... ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة من الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر من الحب والنوى.... إنه كون مقدر بحساب دقيق.. لا مجال فيه للمصادفة العابرة....

وفي موضع آخر يقول -رحمه الله-: وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها وتقوت أبناءها وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها.... وفق سنة الله تعالى بلا إرادة منها.

ويقول في موضع آخر: .... فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار.

وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائبة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ. واللفظ يرسم الشكل ويحدد الوضع ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية.

وما ذكره فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- ليس فيه دليل على أن الأرض لا تدور أو لا تتحرك.. وكلامه -رحمه الله تعالى- متجه إلى أن الشمس هي التي تدور كما هو واضح من الأدلة التي ساقها، ولأن السؤال كان عن دوران الشمس وهذا شيء مسلم به من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لا يتنافى في حركة الأرض ودورانها، فالكواكب كلها تدور وتسبح في خضم هذا الكون الفسيح.

وحركة الأرض ودورانها ليست من الواجب عقلا أو المستحيل عقلا بل هي من الجائز، فإذا أثبت أهل الاختصاص من المسلمين وغيرهم هذه الحقيقة ولم يكن في شرعنا ما يخالفها، فإن علينا أن نسلم بذلك ونحن على يقين جازم بأن ثابت الوحي لن يتعارض مع حقيقية علمية ثابتة، فمرد هذه الأمور التي لم يرد نص فيها قطعي من الوحي إلى أهل الاختصاص من علماء الفلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا {الفرقان:59}، ويقول تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {النحل:43}، ومما يجدر وضعه في الاعتبار أن هذه المسألة لا يترتب عليها حكم شرعي ولا ينبني عليها عمل تكليفي، فينبغي أن يكون البحث فيها لأهل الاختصاص من علماء الفلك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني