الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

البلاء.. أسبابه.. ووسائل دفعه

السؤال

هل ما يحدث للأمة الإسلامية الآن عقاب من الله أم ابتلاء، فهل يوجد آية في القرآن من الفرج للأمة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فمما لا شك فيه أن الله جل وعلا يجري الأمور بمقادير, وكل شيء عنده بمقدار, وما من شيء يحدث إلا ويكون وراء حدوثه حكمة عظيمة، ومن ذلك ما يحصل من الضراء للعباد, فقد تكون إنذاراً منه سبحانه وتعالى، أو عقوبة وابتلاء على أمر أحدثه العباد، فقد يبتلي الله عباده بسبب ذنوبهم فيصيبهم بالبأساء والضراء لعلهم يذكرون, فينيبون إليه ويتوبون ويضرعون ويلتجئون إليه، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {الأنعام:42}، قال الطبري: أي امتحناهم بالابتلاء ليتضرعوا إلي ويخلصوا لي العبادة ويفردوا رغبتهم إلي دون غيري بالتذلل لي بالطاعة، والاستكانة منهم إلي بالإنابة.

وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ {الشورى:30}، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الروم:41}

وقد قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.

وفي الحديث: إذا تبايعتم بالعينة, وأخذتم أذناب البقر, ورضيتم بالزرع, وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم. رواه أبو داود وصححه الألباني. وفي الحديث: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليهم عدوهم فاستنقذوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم. رواه البيهقي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الترغيب.

ولو أن العباد تابوا وأنابوا إلى الله, وأقعلوا عن الذنوب, وتمسكوا بالهدى واستقاموا لغيَّر الله ما بهم, وتحقق لهم ما وعد الله به المؤمنين من العز والنصر والرفعة والعلو والتمكين في الأرض والغلبة، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ {المنافقون:8}، وقال الله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {الروم:47}، وقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {المجادلة:11}، وقال تعالى: وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {آل عمران:139}، وقال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {الصافات:173}، وقال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {المائدة:56}، وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {النور:55}، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: تفسير ابن كثير [ جزء 3 - صفحة 401 ]
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم.

وقد أخبر الله تعالى أنه يدافع عن المؤمنين وأنه معهم وأنه وليهم، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. وقال تعالى: وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ. وقال الله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ. وقال تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.

وقد أخبر تعالى أن مكر الكفار سيحيق بهم وأنهم سيغلبون، قال الله تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. وقال الله تعالى: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ستغلبون في الدنيا، وتحشرون إلى جهنم يوم القيامة.

وقد وعد الله المتقين الصابرين بالحفظ من كيد الأعداء ومكرهم، قال الله تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {آل عمران:120}.

هذا وليعلم أن الخطر الأكبر هو أن لا يتعظ العباد ولا ينيبون عند حصول العقاب والبلاء, فمن لم ينب فقد أخفق في الامتحان، فقد قال الله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الأعراف:168}، وقال سبحانه وتعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {الأنعام:42}، وقال سبحانه: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ {الأنعام:43}، وقد عاب الله على الذين لا يرجعون ولا يتضرعون إليه سبحانه عند نزول العذاب، فقال عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ {المؤمنون:76}، فإذا لم ينب العباد بعد الابتلاء بالضراء فقد يبتلون بالسراء استدراجاً لهم ثم يأخذهم الله بغتة، ففي الحديث: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. رواه أحمد والبيهقي في الشعب، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني.

وقال الحسن البصري: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له، ثم تلا: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. قال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا، وما أخذ الله قوماً إلا عند سكرتهم، غرتهم نعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني