الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب كفارة الجماع في نهار رمضان.

                                                                            1752 - أخبرنا أبو عثمان الضبي، أنا أبو محمد الجراحي، نا أبو العباس المحبوبي، نا أبو عيسى الترمذي، نا نصر بن علي الجهضمي، وأبو عمار، المعنى واحد، واللفظ لفظ أبي عمار، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تسطيع أن تطعم ستين مسكينا؟" قال: لا، قال: "اجلس"، فجلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، والعرق: المكتل الضخم، قال: "فتصدق به"، قال: ما بين لابتيها أحد أفقر منا، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال: "خذه، فأطعمه أهلك". [ ص: 283 ] .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه محمد، عن علي بن عبد الله، وأخرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وغيره، كلهم عن سفيان بن عيينة.

                                                                            وروى هشام بن سعد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، هذا الحديث، وقال: "فأتي بعرق قدر خمسة عشر صاعا"، وقال فيه: "كله أنت وأهل بيتك، وصم يوما، واستغفر الله".

                                                                            والعرق فسره بالمكتل، وأصله السفيفة تنسج من الخوص قبل أن يتخذ منها الزبل، فسمي الزبيل والمكتل عرقا بذلك؛ لأنه يصير إليه، وكذلك كل شيء مضفور، فهو عرق بفتح الراء [ ص: 284 ] قال رحمه الله: أجمعت الأمة على أن من جامع متعمدا في نهار رمضان يفسد صومه، وعليه القضاء، ويعزر على سوء صنيعه.

                                                                            والحديث يدل على أن من ارتكب ما يوجب تعزيرا لله تعالى يجوز للإمام تركه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتعزير الأعرابي.

                                                                            وذهب عامة أهل العلم إلى أن عليه الكفارة إذا أفسد صومه بالجماع على ما ورد في الحديث، وحكي عن سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وقتادة، أنهم قالوا: لا كفارة عليه، ويشبه أن يكون الحديث لم يبلغهم. [ ص: 285 ] .

                                                                            وكفارة الجماع مرتبة مثل الظهار، فعليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فعليه أن يطعم ستين مسكينا، هذا قول أكثر العلماء.

                                                                            وقال مالك: كفارة الجماع مخيرة، فيخير للمجامع بين العتق، والصوم، والإطعام.

                                                                            وفيه دلالة من حيث الظاهر أن طعام الكفارة مد لكل مسكين، لا يجوز أقل منه، ولا يجب أكثر؛ لأن خمسة عشر صاعا إذا قسمت بين ستين مسكينا يخص كل واحد منهم مد، وإلى هذا ذهب الأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد.

                                                                            وكذلك في جميع الكفارات إلا فدية الأذى يجب فيها لكل مسكين مدان للحديث فيه. [ ص: 286 ] .

                                                                            وقال سفيان الثوري، وأصحاب الرأي: يجب أن يطعم كل مسكين نصف صاع من جميع الكفارات، وقال بعضهم: من القمح نصف صاع، ومن غيره من الحبوب صاع، وقد روي في خبر سلمة بن صخر في كفارة الظهار، وروي عن سليمان بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لسلمة: "أطعم عنك ستين مسكينا وسقا من تمر".

                                                                            والوسق يكون ستين صاعا، فيكون لكل مسكين صاع.

                                                                            قال محمد بن إسماعيل: حديث سليمان بن يسار مرسل؛ لأنه لم يدرك سلمة بن صخر.

                                                                            وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن صخر حديث الظهار، وقال في العرق: هو مكتل يسع خمسة عشر صاعا.

                                                                            وروى محمد بن إسحاق بن يسار أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا.

                                                                            وروي عن أوس بن الصامت في كفارة الظهار، وفسر العرق فيه بستين صاعا.

                                                                            فخرج من اختلاف الروايات أن العرق يختلف في السعة والضيق، فيكون بعضها أكبر وبعضها أصغر، فذهب الشافعي إلى حديث أبي هريرة في كفارة المجامع؛ لأنه لا معارض له، وقد وقع التعارض في روايات الظهار، ولأن حديث أبي هريرة أجود إسنادا وأحسن اتصالا، غير أن أحوط الأمرين أن يطعم كل مسكين صاعا أو نصف صاع، ولا يقتصر على المد؛ لأن من الجائز أن يكون العرق الذي أتي به رسول [ ص: 287 ] الله صلى الله عليه وسلم المقدر بخمسة عشر قاصرا عن مبلغ الواجب عليه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بذلك القدر، ويكون الباقي دينا عليه إلى أن يجده.

                                                                            وقوله: "كل أنت وأهل بيتك"، اختلفوا في تأويله، حكي عن الزهري، أنه قال: كان هذا خاصا لذلك الرجل، فأما اليوم، فمن فعله يجب عليه التكفير.

                                                                            وذهب قوم إلى أنه منسوخ، ولا دليل على واحد من هذين القولين.

                                                                            وأحسن ما قيل فيه ما ذكره الشافعي: وهو أن هذا رجل وجبت عليه الكفارة، فلم يكن عنده ما يشتري به الرقبة، ولم يطق الصوم، ولم يجد ما يطعم، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بطعام ليتصدق به، فأخبر أنه ليس بالمدينة أحوج منه، فلم ير له أن يتصدق على غيره، ويترك نفسه وعياله، فأمره بصرفه إلى قوت نفسه وعياله، وسقطت عنه الكفارة في الوقت، وصارت في ذمته إلى أن يجدها كالمفلس يمهل إلى اليسار.

                                                                            قال رحمه الله: وفيه دليل على أن العبرة في الكفارات بحالة الأداء، وهو قول أكثر العلماء، وأظهر قولي الشافعي؛ لأن الرجل حالة ارتكاب المحظور لم يكن له شيء، فلما تصدق عليه، أمره بأن يكفر، فلما ذكر حاجته، أخرها عليه إلى الوجد.

                                                                            قال رحمه الله: فإن كان واجدا للرقبة يوم الوجوب، فلم يعتق حتى عدمها، يجوز له أن يصوم، وإن عجز عن الصوم بعدما كان قادرا عليه، فله أن يكفر بالإطعام، وإن كان عادما للرقبة يوم الوجوب، عاجزا عن الصوم، [ ص: 288 ] فقبل أن يطعم، قدر على الرقبة، فعليه التكفير بالإعتاق، وإن قدر على الصوم يجب عليه أن يصوم، وإن لم يكن قادرا على شيء منها، فيأتي بأسرع ما يقدر عليه.

                                                                            وفي بعض الروايات في هذا الحديث الرجل لما قال: ما بين لابتيها أحوج منا، قال: "فأطعمه أهلك"، فحمله بعضهم على أنه أمره أن يطعم أهله من الكفارة.

                                                                            وعند عامة أهل العلم إنما يجوز صرفه إلى من لا يلزمه نفقته من أقاربه، فأما من يلزمه نفقتهم عند العدم كالوالدين والمولودين، فلا يجوز وضع طعام الكفارة فيهم.

                                                                            واختلفوا في المرأة الصائمة إذا طاوعت في الجماع في نهار رمضان، هل يلزمها الكفارة؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يلزمها الكفارة في مالها؛ لأنها أفطرت بجماع عمد كالرجل، والمشهور من قول الشافعي، أنه لا يجب إلا كفارة واحدة، وهي على الرجل دونها، وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه قال: إن كانت الكفارة بالصوم، كان على كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين.

                                                                            واحتجوا بأن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل جرى بينه وبين زوجته، ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم إلا كفارة واحدة.

                                                                            قال الخطابي: وهذا غير لازم، وذلك أن هذا حكاية حال لا عموم لها، وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر مرض أو سفر، أو تكون مستكرهة، أو ناهية لصومها، أو نحو ذلك من الأمور.

                                                                            قال رحمه الله: فإذا كان كذلك، لم يكن ما ذكروه حجة لسقوط الكفارة عنها عند تعمد الفطر بالجماع.

                                                                            وقوله: "صم يوما واستغفر الله"، فيه بيان أن قضاء ذلك اليوم [ ص: 289 ] لا يدخل في صيام الشهرين عن الكفارة، وهو قول عامة أهل العلم غير الأوزاعي، فإنه قال: إن كفر بالصوم، دخل فيه صوم القضاء، وإن كفر بالعتق أو بالإطعام، فعليه قضاء يوم الجماع.

                                                                            ولو أفطر يوما من شهر رمضان بأكل أو شرب متعمدا، اختلفوا في وجوب الكفارة عليه، فذهب قوم إلى وجوب الكفارة عليه، كما لو أفطر بالجماع، وهو قول مالك، والثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وبه قال أصحاب الرأي، وقالوا: لو ابتلع حصاة، أو نواة لا كفارة عليه.

                                                                            وذهب قوم إلى أنه لا كفارة على من أفطر بغير الجماع، وهو قول الشافعي، وأحمد، وروي أن عمر أتي برجل قد أفطر في رمضان، فلما رفع إليه عثر، فقال: على وجهك، ويحك وصبياننا صيام، فضربه وسيره إلى الشام، وكان إذا غضب على أحد سيره إلى الشام.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية