الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الأمم التي يقص الله - سبحانه - من أنبائها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من أمته . . لم تفد من الشدة شيئا . لم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد . . وهنا يملي [ ص: 1090 ] لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء :

                                                                                                                                                                                                                                      فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيرا . . وفي الحديث : عجبا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (رواه مسلم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . . فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . .

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير القرآني : فتحنا عليهم أبواب كل شيء . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول ; بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة !

                                                                                                                                                                                                                                      إنه مشهد عجيب ; يرسم حالة في حركة ; على طريقة التصوير القرآني العجيب .

                                                                                                                                                                                                                                      حتى إذا فرحوا بما أوتوا . .

                                                                                                                                                                                                                                      وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ; واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ; وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ; وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . . عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل :

                                                                                                                                                                                                                                      أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون . .

                                                                                                                                                                                                                                      فكان أخذهم على غرة ; وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فقطع دابر القوم الذين ظلموا . .

                                                                                                                                                                                                                                      ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم ، أي : يجيء على أدبارهم ; فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى ! . . و الذين ظلموا تعني هنا الذين أشركوا . . كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      والحمد لله رب العالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      تعقيب على استئصال الظالمين (المشركين ) بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين . . وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير ؟

                                                                                                                                                                                                                                      لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه [ ص: 1091 ] السنة ; ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله ; وهذا القدر الظاهر من سنته ; وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة ; وكان لها من التمكين في الأرض ; وكان لها من الرخاء والمتاع ; ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم ; مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ; مخدوعة بما هي فيه ; خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء . .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته ، وهي تعيث في الأرض فسادا ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه :

                                                                                                                                                                                                                                      فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . . فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية . . مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب ! . . لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك !

                                                                                                                                                                                                                                      وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على "الرجل الأبيض " وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة ! وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علما على الصلف العنصري . بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى ! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين :

                                                                                                                                                                                                                                      حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ، ومن هذا الرزق الغزير !

                                                                                                                                                                                                                                      إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والانحلال الخلقي . . الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ; وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ . . وهي طلائع لا تخطئ على نهاية المطاف !

                                                                                                                                                                                                                                      وليس هذا كله إلا بداية الطريق . . وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج " . . ثم تلا : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . . (رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل ) أن يقوم في الأرض (حق ) يتمثل في (أمة ) . . ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . . فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون [ ص: 1092 ] أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله . . وهم كسالى قاعدون . . والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية . . هذا هو الحق الأول ، والحق الأصيل . . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية