الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء. فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءا بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنها عزة هذه العقيدة ، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة ، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة . .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء ; ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء . . كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة ، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين ; ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه ; وألا يقيم وزنا بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة ; ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة :

                                                                                                                                                                                                                                      وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، لعلهم يتقون . .

                                                                                                                                                                                                                                      أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم . ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه ، وهو لا يشفع يومئذ - بعد الإذن - إلا لمن ارتضى الله أن يشفع عند الله فيهم . . فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه - من دون الله - ولي ولا شفيع ، أحق بالإنذار ، وأسمع له ، وأكثر انتفاعا به . . لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا ما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة . فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موح . بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه ، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر ; فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم :

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . .

                                                                                                                                                                                                                                      لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله ; فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء ; يريدون وجهه [ ص: 1100 ] سبحانه ! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد ، والحب ، والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله ، إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب ، وصار ربانيا يعيش لله وبالله . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان أصل القصة أن جماعة من "أشراف " العرب ، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام ; لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يؤوي إليه الفقراء الضعاف ، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ; ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر ، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف ، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم - صلى الله عليه وسلم - رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه :

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . .

                                                                                                                                                                                                                                      روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر . فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ! قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع . فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف ، الذين يخصهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجلسه وبعنايته ; وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ; ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا :

                                                                                                                                                                                                                                      ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم فتكون من الظالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن حسابهم على أنفسهم ، وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله ، لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله ، ولا تقوم بقيمه . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون من الظالمين !

                                                                                                                                                                                                                                      وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ; والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .

                                                                                                                                                                                                                                      عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون : كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء ؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ; ولهدانا الله به قبل أن يهديهم ! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه !

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب ; والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية ، مشرقة الآفاق ، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة ; [ ص: 1101 ] التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها ; وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها !

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ . .

                                                                                                                                                                                                                                      ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء :

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات :

                                                                                                                                                                                                                                      إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة ، التي لا كفاء لها من شكر العبد ، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية . إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات !

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية