الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الطبقة من المسلمين - بمجموعاتها الثلاث: " السابقون الأولون من المهاجرين. والأنصار. والذين اتبعوهم بإحسان " - كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح - كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة، وفي كل رخاء كذلك: فابتلاء الرخاء كثيرا ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة!

                                                                                                                                                                                                                                      والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر، وكذلك السابقون من [ ص: 1703 ] الأنصار. أما الذين اتبعوهم بإحسان - الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعا إبان غزوة تبوك - فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني - وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر، وهي أشد الفترات طبعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار. فقيل: هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل: هم الذين صلوا للقبلتين. وقيل: هم أهل بدر. وقيل: هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية. وقيل: هم أهل بيعة الرضوان... ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح.. والله أعلم..

                                                                                                                                                                                                                                      ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية، يكون حاضرا بين يدي قارئ هذا الجزء خيرا من إحالته إلى الجزء السابق; لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا:

                                                                                                                                                                                                                                      لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله، ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله; ولرسول الله ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.

                                                                                                                                                                                                                                      لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة.. وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة; وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض..

                                                                                                                                                                                                                                      وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله; وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.

                                                                                                                                                                                                                                      بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عودا في المجتمع العربي; فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى; وكان هذا النوع قليلا فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب; إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة; ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار، [ ص: 1704 ] الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.. قال ابن كثير في التفسير: "وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يعني ليلة العقبة): اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل ".

                                                                                                                                                                                                                                      "ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة; ويوثقون هذا البيع، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين; بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم; وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة، وبين ظهرانيهم في المدينة "..

                                                                                                                                                                                                                                      ... فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة; وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة.. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها.. فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء.. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم.. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء: عبد الله بن أبي بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه.. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني، ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة; ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.

                                                                                                                                                                                                                                      وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم; وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة; ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر.. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية.. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1705 ] إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار; وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.

                                                                                                                                                                                                                                      وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد..

                                                                                                                                                                                                                                      نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها; فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها.. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة، وتنص عليها...

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق... من ذلك المجتمع. بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف - وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة - قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون; وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر; وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية....

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك "بإحسان" يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي. وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقى مؤثرا في التاريخ البشري كله، كما نستشرف حقيقة قول الله سبحانه فيهم:

                                                                                                                                                                                                                                      رضي الله عنهم ورضوا عنه ..

                                                                                                                                                                                                                                      ورضى الله عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة، ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه سبحانه، والثقة بقدره، وحسن الظن بقضائه، والشكر على نعمائه، والصبر على ابتلائه.. ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر، المتبادل الوافر، الوارد الصادر، بين الله سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده; ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر - حتى ليبادلون ربهم الرضى; وهو ربهم الأعلى، وهم عبيده المخلوقون.. وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أن [ ص: 1706 ] تعبر عنه، ولكن يتنسم ويستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول!

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك حالهم الدائم مع ربهم: رضي الله عنهم ورضوا عنه . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى:

                                                                                                                                                                                                                                      وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا .. ذلك الفوز العظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم؟؟؟

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك مستوى.. وفي مقابله مستوى:

                                                                                                                                                                                                                                      وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد سبق الحديث والكشف عن المنافقين عامة - سواء من منافقي المدينة أو منافقي الأعراب - ولكن الحديث هنا عن صنف خاص من المنافقين. صنف حذق النفاق ومرن عليه، ولج فيه ومرد، حتى ليخفى أمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كل فراسته وتجربته! فكيف يكون؟

                                                                                                                                                                                                                                      والله سبحانه يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودة في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة. ويطمئن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه، من كيد هذه الفئة الخفية الماكرة الماهرة; كما ينذر هؤلاء الماكرين المهرة في النفاق بأنه سبحانه لن يدعهم، فسيعذبهم عذابا مضاعفا في الدنيا والآخرة:

                                                                                                                                                                                                                                      لا تعلمهم نحن نعلمهم. سنعذبهم مرتين. ثم يردون إلى عذاب عظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والعذاب مرتين في الدنيا الأقرب في تأويله أنه عذاب القلق النازل بهم من توقع انكشاف أمرهم في المجتمع المسلم; وعذاب الموت والملائكة تسألهم أرواحهم وتضرب وجوههم وأدبارهم. أو هو عذاب الحسرات التي تصيبهم بانتصار المسلمين وغلبتهم; وعذاب الخوف من انكشاف نفاقهم وتعرضهم للجهاد الغليظ.. والله أعلم بما يريد..

                                                                                                                                                                                                                                      وبين المستويين المتقابلين، مستويان بين بين.. أولهما:

                                                                                                                                                                                                                                      وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم. ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات؟ وأن الله هو التواب الرحيم؟ وقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.. .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمر الله لرسوله بإجراء معين مع هذه الطائفة دليل على أنها كانت معينة بأشخاصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي أن الآيات نزلت في جماعة خاصة معينة فعلا، ممن تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، ثم أحسوا وطأة الذنب، فاعترفوا بذنوبهم، ورجوا التوبة. فكان منهم التخلف وهو العمل السيئ. وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو جعفر بن جرير الطبري: حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا [ ص: 1707 ] عبيد بن سلمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك. فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته، وكان قريبا من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله، وقالوا: نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يطلقنا ويعذرنا! وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته، فمر في المسجد، وكان طريقه، فأبصرهم! فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - "لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين!" فأنزل الله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم إلى عسى الله أن يتوب عليهم و "عسى" من الله واجب.. فأطلقهم نبي الله وعذرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ووردت روايات متعددة أخرى منها: أنها في أبي لبابة وحده لما وقع في غزوة بني قريظة من تنبيههم لما يراد بهم، وأنه الذبح، بالإشارة إلى عنقه! ولكن هذا مستبعد فأين هذه الآيات مما وقع في بني قريظة! كذلك ورد أنها في الأعراب.. وقد عقب ابن جرير على هذه الروايات كلها بقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جل ثناؤه قال: وآخرون اعترفوا بذنوبهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه، الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة غير أبي لبابة وحده. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم بالاعتراف بذنوبهم جماعة علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست بالواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذ لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعة فعلت ذلك - فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل - إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صح ما قلنا في ذلك، وقلنا: "كان منهم أبو لبابة" لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك"..

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الله - سبحانه - صفة هذه الجماعة من الناس المتخلفين المعتذرين التائبين عقب عليها بقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكما قال ابن جرير: "وعسى من الله واجب".. فهو رجاء من يملك إجابة الرجاء سبحانه! والاعتراف بالذنب على هذا النحو، والشعور بوطأته، دليل حياة القلب وحساسيته، ومن ثم فالتوبة مرجوة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم.. وقد قبل الله توبتهم وغفر لهم..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :

                                                                                                                                                                                                                                      خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كانت تلك الحساسية التي بعثت الندم والتوبة في تلك القلوب، جديرة بالطمأنينة، حقيقة بالعطف الذي يسكب فيها الأمل، ويفتح لها أبواب الرجاء.. وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقود [ ص: 1708 ] حركة، ويربي أمة، وينشئ نظاما، قد رأى الأخذ بالحزم في أمرهم حتى يأتيه أمر من ربه في شأنهم.. قال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة وصاحبيه ، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق بها عنا وصل علينا.. يقولون: استغفر لنا.. وطهرنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أخذ منها شيئا حتى أومر. فأنزل الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم . يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت الآية أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزءا من أموالهم، فتصدق به عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا من الله عليهم لما علمه سبحانه من حسن سريرتهم، وصدق توبتهم، فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم، وأن يصلي عليهم - أي: يدعو لهم، فالأصل في الصلاة الدعاء - ذلك أن أخذ الصدقة منهم يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها; وفي تطوعهم بهذه الصدقات تطهير لهم وتزكية، وفي دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم طمأنينة وسكن.

                                                                                                                                                                                                                                      والله سميع عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      يسمع الدعاء، ويعلم ما في القلوب. ويقضي بما يسمعه ويعلمه قضاء السميع العليم. وهو وحده الذي يقضي في شأن العباد، فيقبل منهم توبتهم ويأخذ منهم صدقاتهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفذ ما يأمره به ربه، ولا ينشئ شيئا من هذا من عنده.. وتقريرا لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية:

                                                                                                                                                                                                                                      ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات، وأن الله هو التواب الرحيم؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو استفهام تقريري يفيد: فليعلموا أن الله هو يقبل التوبة; والله هو يأخذ الصدقة، والله هو يتوب ويرحم عباده.. وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه.. "وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد. وأن محمدا إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله"..

                                                                                                                                                                                                                                      كما يقول ابن جرير..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي النهاية يتوجه الحديث إلى المتخلفين التائبين:

                                                                                                                                                                                                                                      وقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك أن المنهج الإسلامي منهج عقيدة وعمل يصدق العقيدة. فمحك الصدق في توبتهم إذن هو العمل الظاهر، يراه الله ورسوله والمؤمنون. فأما في الآخرة فمردهم إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم فعل الجوارح وكوامن الصدور.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1709 ] إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف. ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة. فيصدق أو يكذب تلك المشاعر النفسية ويعمقها أو يكتسحها بعد أن تكون!

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام منهج حياة واقعية، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا، ما لم تتحول إلى حركة واقعية. وللنية الطيبة مكانها; ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء. إنما هي تحسب مع العمل، فتحدد قيمة العمل. وهذا معنى الحديث: "إنما الأعمال بالنيات".. الأعمال.. لا مجرد النيات!

                                                                                                                                                                                                                                      والفريق الأخير هو الذي لم يبت في أمره، وقد وكل أمره إلى ربه:

                                                                                                                                                                                                                                      وآخرون مرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، والله عليم حكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك - غير المنافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين - وهذا القسم لم يكن حتى نزول هذه الآية قد بت في أمره بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان أمرهم موكولا إلى الله، لم يعلموه ولم يعلمه الناس بعد.. وقد روي أن هذه الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا - أي: أجل إعلان توبتهم والقضاء في أمرهم - وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال ابن أمية، الذين قعدوا عن غزوة تبوك كسلا وميلا إلى الدعة واسترواحا للظلال في حر الهاجرة! ثم كان لهم شأن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيأتي تفصيله في موضعه من السورة في الدرس التالي.

                                                                                                                                                                                                                                      روى ابن جرير بإسناده - عن ابن عباس - قال: لما نزلت هذه الآية.. يعني قوله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم.. يعني أموال أبي لبابة وصاحبيه.. فتصدق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا ولم يذكروا بشيء، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وهم الذين قال الله: وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم .. فجعل الناس يقولون. هلكوا! إذا لم ينزل لهم عذر. وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم! فصاروا مرجئين لأمر الله، حتى نزلت: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة .. الذين خرجوا معه إلى الشام.. من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم .. ثم قال: وعلى الثلاثة الذين خلفوا - يعني المرجئين لأمر الله - نزلت عليهم التوبة فعموا بها، فقال: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إلى قوله: إن الله هو التواب الرحيم ..
                                                                                                                                                                                                                                      (وكذلك روى - بإسناده - عن عكرمة وعن مجاهد، وعن الضحاك وعن قتادة. وعن ابن إسحاق). فهذه الرواية أرجح والله أعلم..

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان أمرهم مرجأ، فإننا نحب أن نرجئ الحديث فيه حتى يجيء في موضعه. إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية