الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فإن لم يستجيبوا لك، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومرة أخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية. التوفز والتلفت. ونلمح معها، التوجه المباشر بالطلب إلى الله، والتطلع إلى حمايته ورعايته، والالتجاء إل حماه في المخافة، وترقب الأمن عنده والنجاة: رب نجني من القوم الظالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة، خائفا يترقب، وحيدا فريدا، غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه; والتوجه إليه طالبا عونه وهداه:

                                                                                                                                                                                                                                      ولما توجه تلقاء مدين قال: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ..

                                                                                                                                                                                                                                      ونلمح شخصية موسى - عليه السلام - فريدا وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفا يترقب، وخرج منزعجا بنذارة الرجل الناصح، لم يتلبث، ولم يتزود ولم يتخذ دليلا. ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه، مستسلمة له، متطلعة إلى هداه: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومرة أخرى نجد موسى - عليه السلام - في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية والطراءة والنعمى. ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلا. ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولاتسلمه لأعدائه أبدا. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء:

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان. قال: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء، وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما، ثم تولى إلى الظل، فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى - عليه السلام - وجد الرعاة الرجال يوردون [ ص: 2700 ] إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن، ولم يحيطوا علما بهذا الدين، فما هو إلا أن يصل إليهم، ويعرض عليهم، حتى تقوم الحجة، وينقطع الجدل، وتسقط المعذرة؛ فهو بذاته واضح واضح، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله. إن الله لا يهدي القوم الظالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم، وعرضه عليهم، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وحين تنتهي هذه الجولة، فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية، تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم، وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم:

                                                                                                                                                                                                                                      الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرءون بالحسنة السيئة، ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، سلام عليكم، لا نبتغي الجاهلين ..

                                                                                                                                                                                                                                      قال سعيد بن جبير - رضي الله عنه - : "نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم: يس والقرآن الحكيم حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون .. إلخ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وروى محمد بن إسحاق في السيرة: "ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه، وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن؛ فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام، في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال؟ ما نعلم ركبا أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا".

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ويقال: إن النفر النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان.قال: ويقال - والله أعلم - : إن فيهم نزلت هذه الآيات: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون.. إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه - رضي الله عنه - والآيات اللاتي في سورة المائدة: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ... إلى قوله: فاكتبنا مع الشاهدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيا من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع، يعلمونه ولا ينكرونه، كي يقفهم وجها لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن، وتطمئن إليه، وترى فيه الحق، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب، ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء; وتحتمل في سبيل الحق [ ص: 2701 ] الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية