الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وطرق حديث الإفك متعددة عن أم المؤمنين عائشة وعن ابن الزبير وأم رومان وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر . ورواه من التابعين عشرة كما في (" فتح الباري " ) وذلك في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها . ما بين مطول وموجز . ومن الثاني ما أخرجه الإمام أحمد عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث قالت : وأي حديث ؟ قالت كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم . فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها . فما أفاقت وإلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها . قالت : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم قال : فما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تحدث به ؟ قالت : فاستوت عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، [ ص: 4473 ] ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني . فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

                                                                                                                                                                                                                                      قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عذرها . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر . فدخل فقال : يا عائشة ! إن الله تعالى قد أنزل عذرك . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم .

                                                                                                                                                                                                                                      قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل يعوله أبو بكر . فحلف ألا يصله . فأنزل الله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى آخر الآية . فقال أبو بكر : بلى ، فوصله
                                                                                                                                                                                                                                      . تفرد به البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      المطلب الثاني : قال في (" الإكليل " ) في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك نزلت في براءة عائشة مما قذفت به ، فاستدل بها الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن قال العلماء : قذف عائشة كفر . لأن الله سبح نفسه عند ذكره . فقال : سبحانك هذا بهتان عظيم كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . وفي قوله تعالى : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا تحريم ظن السوء ، وأنه لا يحكم بالظن . وأن من عرف بالصلاح لا يعدل به عنه لخبر مخبر . وأن القاذف مكذب شرعا ، ما لم يأت بالشهداء . وفي قوله تعالى : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة الآية ، الحث على ستر المؤمن وعدم هتكه . أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان ، قال : من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وأخرج عن عطاء قال : من أشاع الفاحشة فعليه النكال وإن كان صادقا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 4474 ] وأخرج عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الرجل يتكلم عنده في الرجل ، فيشتهي ذلك ولا ينكر عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة الآية . النهي عن الحلف ألا يفعل خيرا ، وأن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، يستحب له الحنث . وفيه الأمر بالعفو والصفح .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل من ذهب إلى أن قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الآية ، نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، يقتل قاذفهن ، إذا لم يذكر له توبة ، كما ذكرت في قاذف غيرهن في أول السورة انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير : ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها ، والصحيح أن الآية عامة لكل المؤمنات ، ويدخل فيهن أمهات المؤمنين دخولا أوليا ، لا سيما من كانت سبب نزولها ، وهي عائشة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة ، على أن من سبها بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما : أنهن كهي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : قال الإمام ابن تيمية في قوله تعالى : الخبيثات للخبيثين الآية أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين . فلا تكون خبيثة لطيب . فإنه خلاف الحصر . وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة ، فإنه خلاف الحصر . إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين . فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة . وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين . فلا يبقى طيبة لخبيث . فجاء الحصر من الجانبين ، موافقا لقوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية . ولهذا قال من قال من السلف : ما بغت امرأة نبي قط ، فإن السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك .

                                                                                                                                                                                                                                      ولهذا لما صارت شبهة ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 4475 ] في طلاقها . إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة ، وقد روي أنه : « لا يدخل الجنة ديوث » وهو الذي يقر السوء في أهله ، ولهذا كانت الغيرة على الزنى مما يحبها الله وأمر بها. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني » ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجا ، أن يلاعن ، لأجل ما أمر به من الغيرة ، ولأنها أفسدت فراشه ، وإن حبلت من الزنى ، فعليه اللعان ، لئلا يلحق به من ليس منه . ومضت السنة بالتفريق بينهما ، سواء حصلت الفرقة بالتلاعن أو بحاكم أو عند انقضاء لعان الزوج . لأن أحدهما ملعون أو خبيث . فاقترانهما يقتضي مقارنة الخبيث للطيب . وفي صحيح مسلم من حديث عمران في الناقة التي لعنتها المرأة ، أنه أمر فأخذ ما عليها وأرسلت . وقال : « لا تصحبنا ناقة ملعونة » . ولما اجتاز بديار ثمود قال : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . لئلا يصيبكم ما أصابهم » . فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب . وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي . لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ويخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل ، وأقل ذلك أن يكون منكرا لظلمهم ، ماقتا لهم شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان . كما في قوله : « من رأى منكم منكرا لظلمهم ، فليغيره بيده إلخ » . وقال تعالى : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون الآية ، وكذلك ما ذكره عن يوسف وعمله لصاحب مصر لقوم كفار . وذلك أن مقارنة الكفار إنما يفعلها المؤمن في موضعين : أحدهما : أن [ ص: 4476 ] يكون مكرها عليها . الثاني : أن يكون في ذلك مصلحة دينية ، راجحة على مفسدة المقارنة ، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه فيدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما ، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة . وفي الحقيقة : المكره هو من يدفع الفساد باحتمال أدناهما . وهو الأمر الذي أكره عليه قال تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وقال تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله : غفورا وقال : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقد دلت الآية على النهي عن مناكحة الزاني ، والمناكحة نوع خاص من المصاحبة . والمناكحة في أصل اللغة المجامعة . فقلوبهما تجتمع إذا عقد النكاح بينهما ، ويصير بينهما من التعاطف ما لم يكن قبل ذلك . حتى يثبت ذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة ، بمجرد ذلك في التوارث وعدة الوفاة وغير ذلك . وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد ، وهو المعاشرة المقررة للصداق ، كما أفتى به الخلفاء . وآخر ذلك اجتماع المباضعة . وهذا ، وإن اجتمع بدون عقد نكاح ، فهو اجتماع ضعيف ، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح ودل قوله تعالى : والطيبات للطيبين على ذلك من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ودل أيضا على النهي عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم ، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص . مثل قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي : نظراءهم وأشباههم . والزواج أعم من النكاح المعروف . قال تعالى : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا وقال : من كل زوج بهيج وقال : وإذا النفوس زوجت وقال : ومن كل شيء خلقنا زوجين وقال : وخلقناكم أزواجا [ ص: 4477 ] . وقال : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم وإن كان في الآية نص في الزوجة التي هي الصاحبة وفي الولد منها . فمعنى ذلك : في كل مشابه ومقارن في كل نوع وتابع : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده الآيتين . فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع طاعة الله على مراد الله . ويدل عليه الحديث الذي في السنن « لا تصاحب إلا مؤمنا . ولا يأكل طعامك إلا تقي » وفيها « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل » وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة « إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد » إلى قوله « ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير » والضفير الحبل وهذا أمر ببيعها ولو بأدنى ما يقابله . قال أحمد : إن لم يبعها كان تاركا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم . والإماء اللاتي يفعلن هذا ، يكون عامتهن للخدمة . فكيف بأمة التمتع ؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه ، فكيف بالزوجة الزانية ؟ والعبد نظير الأمة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : لعن الله من آوى محدثا فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثا . [ ص: 4478 ] سواء كان إحداثه بالزنى أو السرقة ، أو غير ذلك ، وسواء كان الإيواء بملك اليمين ، أو نكاح ، أو غير ذلك ، لأن أقل ما فيه ترك إنكار المنكر . والمؤمن يحتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه ، بالنكاح وغيره . قال تعالى : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن وكذلك المرأة التي زنى بها رجل ، فإنه لا يتزوجها إلا بعد التوبة في الأصح . كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار . لكن إذا أراد أن يمتحنها . هل هي صحيحة التوبة ؟ فقال ابن عمر : يراودها . فإن أجابته لم تصح توبتها . وإن لم تجبه فقد تابت . ونص عليه أحمد . وقيل : هذا فيه طلب الفاحشة . وقد تنقض التوبة . وقد تأمره نفسه بتحقيق ذلك . ويزين له الشيطان ، لا سيما إن كان يحبها وتحبه ، وقد ذاقته وذاقها . ومن قال بالأول قال : الأمر الذي يقصد به امتحانها ، لا يكون أمرا بما نهى الله عنه . ويمكنه أن لا يطلب الفاحشة بل يعرض . والتعريض للحاجة جائز بل واجب في مواضع كثيرة . وأما نقضها ، فإذا جاز أن تنقض للتوبة معه ، جاز أن تنقضها مع غيره والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها . وأما تزيين الشيطان له الفعل . فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محنة . فإذا أراد المؤمن أن يصاحب أحدا ، وقد ذكر عنه الفجور ، وقيل إنه تاب ، أو كان ذلك مقولا صدقا أو كذبا ، فإنه يمتحنه بما يظهر به بره وفجوره ، وكذلك إذا أراد أن يولي أحدا ولاية ، امتحنه ، كما أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسى ، لما أعجبه سمته . فقال له : قد علمت مكاني عند أمير المؤمنين . فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك ؟ فبذل له مالا عظيما . فعلم أنه ليس ممن يصلح للولاية . وكذلك في المعاملات . وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا ، أو قيل عنهم الفجور ، وأراد الرجل أن يشتريه فإنه يمتحنه . ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس ، وتارة بالجرح والتعديل ، وتارة بالاختبار والامتحان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية