الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( ولو عالما بها لزمه الأرش كبيعه وتعليق عتقه بقتل فلان ورميه وشجه إن [ ص: 423 ] فعل ذلك ) يعني لو أعتق عبده عالما بالجناية صار مختارا للفداء بهذا العتق لأن الإعتاق يمنع من الدفع فالإقدام عليه اختيار فإذا أعتقه وهو يعلم بالجناية صار مختارا للفداء لما قلنا وهو المراد بقوله كبيعه يعني لو باعه عالما بالجناية وعلى هذين الوجهين الهبة والتدبير والاستيلاد لأن كل واحد منهما يمنع من الدفع لزوال الملك والتمليك به بخلاف الإقرار لغيره بالعبد الجاني على رواية الأصل لأنه لا يسقط به حق ولي الجناية فإن المقر له يخاطب بالدفع إليه .

                                                                                        وليس فيه نقل الملك لأن الإقرار ليس بتمليك من جهة المقر وإنما إظهار الحق فيحتمل أن يكون صادقا بذلك فإذا لم يصر مختارا لا يلزمه الفداء وتندفع الخصومة عنه إن أقام بينة أنه للمقر له وإن لم تقم فيقال له إما أن تفديه أو تدفعه فإن فداه صار متطوعا بالفداء حتى لا يرجع به على المقر له إذا حضر وصدقه أنه له وإن دفعه كان المقر له بالخيار إذا حضر إن شاء أجاز دفعه وإن شاء فداه ولا فرق في هذا المعنى بين أن تكون الجناية في نفس أو في الأطراف لأن الكل موجب للفداء فلا يختلف وكذا لا فرق في البيع بين أن يكون بتا وبين أن يكون فيه خيار المشتري لأن الكل يزيل الملك بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع ثم نقضه أو العرض على البيع لأن الملك لم يزل به ولا يقال المشتري بالخيار إذا باع بشرط الخيار له يصير مختارا للإجازة به فوجب هنا أن يكون مختارا للفداء لأنا نقول لو لم يكن المشتري مختارا للزم منه ملك غيره وهنا لا يلزم ولأنه يلزم في البيع بيع الغرر وهنا لا يلزم ولو باعه بيعا فاسدا لم يصر مختارا للفداء حتى يسلمه لأن الملك لا يزول إلا به بخلاف الكتابة الفاسدة حيث يكون مختارا للفداء بها لأن حكم الكتابة تعلق العتق بأداء المال وفك الحجر عن العبد في الحال وهو ثابت بنفس الكتابة ولا كذلك البيع الفاسد لأن حكمه وهو الملك لا يثبت إلا بالقبض ولو كانت الكتابة صحيحة ثم عجز كان له أن يدفعه بالجناية .

                                                                                        فإن كان ذلك قبل أن يقضي عليه بالقيمة وبعدها لا يدفعه لتقرر القيمة بالقضاء ولو باعه من المجني عليه كان مختارا للفداء بخلاف ما إذا وهبه منه لأن المستحق له أخذه بغير عوض وهو متحقق في الهبة دون البيع وإعتاق المجني عليه بأمر المولى بمنزلة إعتاق المولى فيما ذكرنا لأن فعل المأمور به ينتقل إلى الآمر ولو ضربه فنقصه كان مختارا بعد العلم لأنه جنس جزء منه فإن أزال النقصان قبل القضاء بالقيمة كان له أن يدفعه بها لزوال المانع من الدفع قبل استقرار القيمة ويصير مختارا بالإجارة والرهن في رواية كتاب الإعتاق لأنهما لازمان فيكون محدثا فيه ما يعجز عن الدفع والأظهر أنه لا يصير مختارا بهما للفداء لأنه لم يعجزه عن الدفع لأن له أن يفسخ الإجارة والرهن لحق المجني لتعلق حقه بعين العبد سابقا على حقهما فيفسخان صونا لحقه عن البطلان وكذا لا يصير مختارا بالإذن في التجارة وإن ركبه دين لأن الإذن لا يفوت الدفع ولا ينقص الرقبة إلا أن لمولى الجناية أن يمتنع من القبول لأن الدين لحقه من جهة المولى بعد ما تعلق به حقه فلزم المولى قيمته ولو جنى جنايتين فعلم بأحدهما دون الأخرى وتصرف به تصرفا يصير به تصرفا مختارا للفداء فيما علم وفيما لا يعلم يلزمه حصته من قيمة العبد .

                                                                                        وقوله كبيعه وتعليق عتقه بقتل فلان أو رميه وشجه إن فعل ذلك أي يصير مختارا ببيعه بعد العلم بها وبتعليق عتقه بما ذكرنا من القتل والرمي والشج يصير مختارا كما يصير مختارا بالإعتاق بعد الإعلام بها وإنما يصير مختارا بالتعليق عند علمائنا الثلاثة وقال زفر لا يصير مختارا كما لا يصير مختارا بالإعتاق بعد الإعلام بها وإنما يصير مختارا بما ذكرنا لأن أوان تكلمه به لا جناية من العبد ولا علم للمولى بما سيوجد بعد وبعد الجناية لم يوجد منه فعل يصير به مختارا ألا ترى أنه لو علق الطلاق أو العتاق بالشرط ثم حلف أن لا يطلق أو لا يعتق ثم وجد الشرط وثبت العتق والطلاق لا يحنث بذلك في يمينه فكذا هذا ولنا أنه علق الإعتاق بالجناية والمعلق بالشرط ينزل عند وجود الشرط كالمنجز عنده فصار كما إذا أعتقه بعد الجناية ألا ترى أن من قال لامرأته إذا دخلت الدار فوالله لا أقربك أربعة أشهر يصير ابتداء الإيلاء من وقت الدخول وكذا إن قال لها إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا ومات من ذلك يصير فارا لأنه يصير مطلقا بعد الدخول ووجود المرض بخلاف ما أورده لأن غرضه طلاق أو عتاق يمكنه الامتناع عنه فلا يدخل تحته ما لا يمكنه الامتناع عنه ولأنه حرصه على مباشرة الشرط بتعليق أقوى الدواعي إلى القتل والظاهر أنه يفعله وهذا دلالة الاختيار هذا إذا علقه بجناية توجب المال [ ص: 424 ] كالخطأ وشبه العمد وإن علقه بجناية توجب القصاص بأن قال له إن ضربته بالسيف فأنت حر فلا يجب على المولى شيء بالاتفاق لأنه لا فرق بين العبد والحر في القصاص فلم يكن المولى مفوتا حق ولي الجناية بالعتق وبكل قتل تجب الكفارة فيه يصير المولى مختارا كالقتل بالمباشرة وإن لم تجب الكفارة فيه لا يصير مختارا وهو القتل تسببا كما لو وقع في بئر حفرها المولى لأن القتل تسببا ليس بقتل حقيقة لأن القتل فعل في الحر ويؤثر في إزهاق الروح والتسبب ليس بفعل في الحر لأنه لم يوصل إلا إلى الدية ولهذا لم يجب القصاص ولا يحرم الإرث فلم يصر متملكا للعبد وبالقتل مباشرة صار مستدعيا للعمد في كل موضع صار متلفا للعبد يضمن الفداء لما بينا .

                                                                                        ولو أخبره عبده بالجناية فأعتقه المولى وقال لم أصدقه فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يضمن ما لم يخبره رجل حر عدل وعندهما يضمن الدية وإن كان المخبر فاسقا أو كافرا وقد مرت في الوكالة والشفعة ولو به لغيره فهو على قسمين إما أن أقر بالجناية أولا ثم بالملك أو على عكسه وكل قسم لا يخلو إما أن يكون الملك في العبد معروفا للمقر أو كان مجهولا أما القسم الأول لو أقر بالجناية ثم بالملك لغيره والملك في العبد معروف للمقر فإن صدقه المقر له في الملك والجناية جميعا يقال للمقر له ادفع العبد أو افده لأنه صح الإقرار لأن حق المجني عليه لا يمنع نفوذ تصرف المولى لأن حقه في الدافع أو الفداء وهو باق بعد الإقرار والثابت بالإقرار كالثابت بالبينة العادلة ومتى ظهر الملك للمقر له بالإقرار ظهر أن الجناية صدرت من ملكه وإن كان كذبه فيها لا يكون المقر مختارا للفداء خلافا لزفر له أن صحة الإقرار لا تتوقف على تصديق المقر له ولهذا لو مات المقر قبل التصديق يصير المقر به ميراثا لورثته فقد زال العبد عن ملكه بنفس الإقرار وهو عالم بالجناية فيصير مختارا ولنا أن صحة الإقرار لا توجب على التصديق والبطلان يتوقف على التكذيب وإذا اتصل به التكذيب بطل من الأصل فلو صدقه في الملك وكذبه في الجناية صار المقر مختارا للفداء لأن الإقرار بالجناية على العبد صادف ملكه في العبد فصح .

                                                                                        ثم إذا أقر بالملك لغيره وصدقه المقر له صار مزيلا للعبد عن ملكه فصار كما لو باعه أو وهبه وأما القسم الثاني لو أقر بالملك أولا ثم بالجناية إن صدقه فيهما فالخصم هو المقر له وإن كذبه فيهما فالخصم هو المقر وإن صدقه في الملك وكذبه في الجناية هدرت الجناية لأنه لما صدقه المقر في الملك ظهر أن إقراره بجناية العبد صادق فلا يصح إقراره بالجناية متى كذبه المقر له فلم تثبت الجناية وكذلك إن كان العبد مجهولا لا يدري أنه للمقر أم لغيره فأقر بالجناية أولا ثم بالملك أو بالملك أولا ثم بالجناية لأن الملك ثابت للمقر بظاهر اليد لا يستند إلى دليل والملك الثابت بظاهر اليد لا يصلح حجة للاستحقاق واختيار الفداء فلم يصر مختارا للفداء بخلاف ما لو كان الملك له معروفا لأن ملكه ثابت مستند إلى دليل سوى ظاهر اليد فصلح حجة لإثبات ما لم يكن ولو قال كنت بعته من فلان قبل الجناية وصدقه فلان يخير المشتري بين الدفع والفداء لأنه ثبت الملك بتصادقهما .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية