الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في تعليق الطلاق]

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن قال: إن دخلت هذه الدار أو أكلت أو شربت أو لبست أو قمت أو قعدت أو ركبت فأنت طالق، إنها أيمان.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: هي أيمان كما قال، والحكم فيها مختلف، فأما قوله: إن دخلت الدار فهي يمين لا يحنث إلا بالدخول، وأما قوله: إن أكلت أو شربت ولم يضرب أجلا، فإنه يحنث الآن; لأنه لا يصح أن لا تأكل ولا تشرب، وكذلك إذا ضرب أجلا لا يمكنه الصبر إليه، وإن كان مما يمكن الصبر إليه لم يحنث، وكذلك يمينه: إن لبست أو قمت أو قعدت يحنث إذا لم يضرب أجلا، [ ص: 2601 ] أو ضرب أجلا لا يمكنه الصبر إليه، وأما قوله: إن ركبت فكقوله: إن دخلت الدار.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال: إذا حضت فأنت طالق، فقال مالك وابن القاسم: يلزمه الطلاق مكانه حين تكلم بذلك، فأوقع الطلاق بنفس اللفظ من غير حكم.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: لا شيء عليه حتى تحيض، وهو قول المخزومي وابن وهب وابن عبد الحكم. وقيل في هذا الأصل: لا يقع عليه الحنث بنفس اللفظ إلا أن يرفع ذلك إلى حاكم فيحكم عليه بالطلاق، وهو أحسن; لأنه أمر مختلف فيه، والحكم يرفع الاختلاف، وقد اختلف أهل العلم في الطلاق إلى أجل هل يعجل؟

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك فيمن حلف الطلاق بالحيض، وإن كانت يائسة أو شابة وهي ممن لا ترى حيضا لم يعجل الطلاق على حال.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال: أنت طالق كلما حضت حيضة، فقال ابن القاسم: هي طالق الساعة ثلاثا.

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون: يقع عليها طلقتان; لأنه طلق بأول الحيضة فهو يتعجل الآن، وهي طاهر، ثم تعتد بأول حيضة، وتعجل الطلقة الثانية أيضا، وتسقط الثالثة لأنها بأول ما ترى من الدم بائن، فإنما أوقعها على غير زوجة، قال: ولو [ ص: 2602 ] قال: أنت طالق لأول حيضة، فإذا حاضت الثالثة لزمه طلقة؛ لأنها بأول رؤية الدم الثالث بائن.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد: إذا قال: أنت طالق كلما حضت حيضة لا شيء عليه حتى تحيض فيقع عليها طلقة ويرتجع، فإذا حاضت الثانية وقعت الثانية وارتجع، وإذا حاضت الثالثة بانت، ولو لم يرتجع لم يقع عليه سوى تطليقتين.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قال: أنت طالق كلما جاء شهر أو سنة، فقال ابن القاسم: هي طالق ثلاثا ساعة تكلم بذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الملك وسحنون: لا يقع عليه إلا ما كانت فيه في العدة، فإن قال وهي في شعبان: أنت طالق كلما جاء شهر. كان قد علق الأولى باستهلال رمضان، والثانية: باستهلال شوال، والثالثة: باستهلال ذي القعدة، فتعجل الآن الطلقة الأولى، فإن انقضت العدة، قبل أن يستهل شوال لزمه طلقة، وإن لم تنقض العدة حتى استهل شوال لزمه طلقتان، وإن تأخرت إلى ذي القعدة لزمه الثلاث، وإن ارتجعها في رمضان ويقف عنها حتى ينظر ما كان يقع عليه من الطلاق لو لم يرتجع، فإن حاضت الثالثة قبل استهلال شوال صحت رجعته على طلقة مضت، وإن حاضت الثالثة في شوال صحت رجعته على طلقتين مضتا، وإن حاضت الثالثة في ذي القعدة لم تصح رجعته. [ ص: 2603 ]

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الملك في المبسوط: إذا قال أنت طالق إلى شهر، وأنت طالق إلى سنتين، وأنت طالق إلى ست سنين. وقع عليه الآن طلقة، وينتظر إلى سنتين، فإن بقيت عدتها وقعت الثانية، وأما ما وراء الخمس فإنه طلق غير زوجة، ولو ارتجعها من ساعته كان له أن يصيبها؛ لأنها رجعة مستقيمة من طلقة أو اثنتين، قال: ولو قال: أنت طالق الساعة، وطالق إلى سنة، وطالق إلى أربع. فإنها تطلق الآن واحدة، وينتظر عند السنين، فإن ارتجع لم يصب لعل عدتها أن تمتد إلى أربع سنين، فتقع الثالثة، ولكن يرتجع لعل العدة تنقضي قبل السنين، وتحبس زوجته عليه رجعتها، فإن قامت عليه ضرب له أجل الإيلاء، فإن انقضت عدتها إلى ذلك فهي زوجة، وإلا طلق عليه بالإيلاء; لأنه لا يقدر على أن يفي; لأنه لا يدري لعلها تحرم بالثلاث، ولو قال: أنت طالق كلما حاضت فلانة "لامرأته الأخرى"، لزمه الثلاث، ولا يراعى ها هنا عدة، بخلاف أن يعلق الطلاق بحيض زوجته، وإن قال لزوجته وهي حائض: أنت طالق إذا طهرت، وقع عليه الطلاق الآن؛ لأن الطهر لا بد منه، وإن لم ينقطع الدم وصارت مستحاضة كانت طاهرا، وقال أشهب: لا يعجل بالطلاق حتى تطهر. والأول أحسن. [ ص: 2604 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية