الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في اختلاف الوصايا واختلاف أحكامها

                                                                                                                                                                                        الوصية عشرة فالأول : أن يكون قدرها الثلث ، ويجعلها في صنف لا يلحق الورثة بإخراجه منه ضرر .

                                                                                                                                                                                        والثاني : أن يعول على ثلثه ، ويجعله بحيث يجوز حسب الأول .

                                                                                                                                                                                        والثالث : أن يوصي بالثلث ، ويجعله فيما يضر بالورثة إخراجه كالذي يأخذ الحاضر ويترك الغائب ، أو يأخذ الناض ويجعل لهم الدين .

                                                                                                                                                                                        والرابع : أن يعاوض ورثته ويبايعهم فيأخذ المنافع والغلات ، ويترك لهم المرجع ، أو يترك لهم المنافع ، ويجعل لنفسه المرجع ، أو يأخذ حاضرا دون الثلث ، ويترك كثيرا غائبا .

                                                                                                                                                                                        والخامس : أن يقصد الضرر بورثته دون البر لنفسه ، وما لا ينفع في عاجل الدنيا ولا في آجل الآخرة .

                                                                                                                                                                                        والسادس : أن يجتمع في الوصية شيئان : العول على الثلث ، ويجعلها فيما يضر بهم ، أو يتعذر بيعه .

                                                                                                                                                                                        والسابع : أن يجتمع العول والمبايعة . [ ص: 3640 ]

                                                                                                                                                                                        والثامن : أن يجتمع العول والمبايعة ، ويجعلها فيما يضر بهم .

                                                                                                                                                                                        والتاسع : أن يجتمع في ذلك ما يريد به الضرر ، وما يريد به البر .

                                                                                                                                                                                        والعاشر : ألا يكون عول ، ويريد بر نفسه ، وضرر الورثة ، فإن كانت التركة صنفا عبيدا أو ديارا أو عروضا فوصى بشيء بعينه من ذلك وهو الثلث فأقل ، جاز وليس للورثة أن يقولوا له : الثلث شائعا وليس له أن يأخذ ذلك المعين لنفسه .

                                                                                                                                                                                        وكذلك إن كانت عبيدا ، أو متاعا فأراد أن يأخذ أحد المصنفين ، وهما في إنجاز البيع إن أريد سواء ، وليس لهم أن يقولوا : إنما يأخذ ثلث كل صنف .

                                                                                                                                                                                        وكذلك إن كانت التركة عينا فوصى بالدراهم دون الدنانير ، أو بالدنانير دون الدراهم ، وهو في القيمة الثلث فأقل أو كانت كلها دنانير ، وهي مختلفة السكك فوصى منها بما قيمته الثلث وهو أجود سكة ، وأدنى وزنا أو أوزن وأدنى سكة ، فترك فضل العدد لمكان جودة السكة ، أو ترك فضل الجودة لمكان كثرة العدد ، فذلك جائز ، وإن كره الورثة ، ولم ير ذلك من الربا بينه وبين الورثة ، وإن كانوا شركاء له بالموت .

                                                                                                                                                                                        وكذلك لو خلف عينا ، ودينا والدين دنانير ودراهم فأوصى بالدين ، جاز [ ص: 3641 ] إذا حمل الثلث عدده .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان في العدد أكثر من الثلث ، وفي القيمة الثلث فأقل ، فقيل : تجوز الوصية; لأن الدين كعرض فلو وصى له بعرض ، وله عين لجاز إذا حمل الثلث قيمته ، وقيل يجعل في الثلث العدد .

                                                                                                                                                                                        قال مالك : وليس له أن يوصي بالعين ويترك لهم الدين .

                                                                                                                                                                                        وأرى إذا كان الدين حالا على موسر حاضر غير ملد ، أو مؤجلا لا يتعذر بيعه وقيمته إن بيع الثلثان فأكثر أن تجوز الوصية ، وإن كره الورثة . كما قال : لو أوصى بالعين ، وجعل لهم عرضا وهو مما لا يتعذر بيعه . وكذلك إن كانت التركة ديارا ، أو حمامات ، أو حوانيت ، أو عبيدا ، أو متاعا ، فله أن يجعل ثلثه في أي ذلك أحب ، وإن لم يرض الورثة إلا أن يكون الذي ترك لهم مما يتأخر بيعه بالأمر البين ويعلم أن غرضهم فيما يصير إليهم من التركة البيع ليس الاقتناء .

                                                                                                                                                                                        والقسم الثاني : إن جعل الوصية بحيث يجوز له حسبما تقدم ، وعال على ثلثه ، مضت وصيته في الصنف الذي جعلها فيه ، ويكون المقال للورثة في الزائد على الثلث خاصة، فإن أجازوه وإلا كان لهم رد الزائد خاصة إذا كانت التركة دنانير ودراهم أو مكيلا أو موزونا ، وإن كان فيها ربا مما لا يجوز [ ص: 3642 ] بين الأجنبيين مثل أن يخلف مائة شعيرا ومائة قمحا فوصى بالشعير وهو الثلث ، فإنه يمضي ويصير إلى الورثة المائة القمح على الثلثين .

                                                                                                                                                                                        واختلف عن مالك إذا كانت التركة ديارا أو عبيدا أو متاعا ، فقال مرة : إن لم يجز الورثة ، قطعوا بالثلث شائعا . وقال أيضا : يحط ذلك الزائد من الموصى به خاصة ، وهو أحسن; لأن للميت أن يجعل ثلثه في تلك العين ، وإنما مقالهم في الزائد .

                                                                                                                                                                                        والقسم الثالث : إن وصى بالثلث فأقل ، وجعله مما يضر بالورثة فوصى بالحاضر ، وترك لهم الغائب ، كان الورثة بالخيار فإن لم يجيزوا كان للموصى له ثلث الحاضر ، وثلث الغائب .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان عينا وعقارا أو عينا وعبيدا ، وأوصى بالعين . فقال مالك : ليس له أن يأخذ العين ، ويبقيهم في العروض .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أوصى بعشرة دنانير ، ولم يخلف عينا غيرها ، وله عروض وشوار ورقيق ودواب ، قال : تدفع الدنانير في الوصية وإن كره الورثة ، قال : وسواء أوصى بعشرة بعينها ، أو قال : عشرة .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون في المجموعة : إذا كان ما سوى العشرة بعيد الغيبة ، أو بطيء [ ص: 3643 ] البيع ، خير الورثة بين أن يدفعوا الدنانير ، أو يقطعوا له بالثلث من الجميع .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في العتبية فيمن وصى بعشرة دنانير ، وليس له إلا مال غائب ، أو ديون على الناس فيريد الموصى له أن يتعجل العشرة ويقول الورثة : إذا تقاضينا أعطيناك قال : يخير الورثة بين أن يعجلوا له ذلك ، وبين أن يقطعوا له بالثلث ، فينظر قدوم الغائب ، أو يتقاضى لنفسه .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد : لا يخير هنا ، ويباع للوصية .

                                                                                                                                                                                        قال : ومن أوصى بعشرة دنانير لرجل ، وليس له إلا مائة دينار دينا فقبض من المائة عشرة أفيخير الورثة؟ قال : لا; لأنه على علم أن ماله دين ، وإنما أشركه في المائة بعشرة ، ولم يقل من أولها ، ولا من آخرها وقد أوصى بعشرها ، قال : ولو كان الميت قبض منها خمسة عشر قبل أن يموت ، أو كانت عنده خمسة عشر من غيرها ، خير الورثة بين دفع العشرة نقدا ، أو القطع بالثلث . [ ص: 3644 ]

                                                                                                                                                                                        القسم الرابع : فإن أوصى بالخدمة ، أو بالسكنى وترك لهم المرجع ، أو ترك لهم الخدمة مرة وأخذ المرجع والرقاب جميع مال الميت ، كانت مبايعة منه لهم; لأن الورثة يستحقون ثلثي الرقاب بتلا فقد أخذ ثلثي مالهم بتلا ، من الخدمة ، وأعطاهم ثلث الرقبة ، أو أعطاهم ثلث الخدمة ، وأخذ منهم ثلثي المرجع ، فإذا كان ذلك ، كان الورثة بالخيار بين أن يجيزوا وصيته ، أو يقطعوا لأهل الوصايا بالثلث بتلا; لأن مقال الورثة لم يكن لأنه عال على الثلث فيحط الزائد ، وإنما كان مقالهم لمكان ما حبس من الرقاب ، أو المنافع . وكذلك إذا كان أخذ حاضرا ، ولم يستوعب الثلث ، وترك لهم الغائب ، وهو أكثر من الثلثين ولم يجز الورثة ، خرجوا من الثلث شائعا; لأن مقال الورثة لم يكن للزائد فيقطع في عين الموصى به .

                                                                                                                                                                                        وروي عن أشهب أنه قال : يقطع في عينه . يريد لأنه إذا قطع في عينه صار له من الخدمة فيه أكثر مما يكون إذا قطع له من جميع التركة ، فكان ذلك من جميع التركة ، وكان ذلك أقرب لقصد الميت . [ ص: 3645 ]

                                                                                                                                                                                        القسم الخامس : إن قصد بالوصية ضرر الورثة من غير منفعة له مثل أن يوصي بدار أن تهدم أو شجر أن تقطع أو ثوب أن يحرق ، وأن يبقى ذلك موقوفا لا يسكن ولا يستغل ، ولا يقام عليه ويترك حتى يهلك ، وكل هذا الوصية به باطل ، فلا تنفذ إن قصد الضرر ، ويقول الله سبحانه : غير مضار [سورة النساء آية : 12] ، ولا إن لم يقصد الضرر لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال ، وقوله تعالى : والله لا يحب الفساد [سورة البقرة آية : 205] .

                                                                                                                                                                                        القسم السادس : فإن قصد بالوصية ضرر الورثة ، وجعلها فيما يتعلق به قربة لله سبحانه ، لم يجز .

                                                                                                                                                                                        قال مالك وابن القاسم وأشهب فيمن أوصى لوارث بثلث ماله ، وقال : فإن لم يجز ذلك الورثة فهو في سبيل الله : لم تجز للوارث ، ولا في سبيل الله; لأنه من الضرر . وإن قال : ذلك في سبيل الله إلا أن يدفعها ورثتي لابني ، أنفذت في سبيل الله إن لم ينفذوها للابن .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم : إن قال غلامي هذا لابني وله ولد سواه ، فإن لم يجيزوه له فهو حر كان ميراثا ، ولا حرية له . ولو قال : هو حر إلا أن ينفذوه ورثتي لابني ، كان كما قال . [ ص: 3646 ]

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد : لا يجوز وهو من الضرر ، وسواء عنده قال : هو لابني فإن أبوا فأعتقوه ، أو هو عتيق إلا أن ينفذوه لابني . وحملوا قول الله عز وجل : غير مضار [النساء : 12] على العموم فيما يكون ضررا ، وإن كان الثلث .

                                                                                                                                                                                        وقيل : معنى قوله سبحانه : غير مضار [النساء : 12] ألا يوصي بأكثر من ثلثه .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد بن عبد الحكم : إنه عتيق قدم ذلك أو أخره ، وهو أحسن; لأن العتق مما يراد به البر ، وإنما أراد أن يؤثر به ولده ، فإن لم يكن قدمه لآخرته ، وأدنى منازله مشكل هل أراد الضرر أم لا؟ وليس هذا مما يقطع به أنه أراد به الضرر ، فلا تسقط وصيته بالشك .

                                                                                                                                                                                        واختلف في مثل ذلك في الزوجة تتصدق بثلثها إرادة الضرر بزوجها ، فقال مالك في كتاب ابن حبيب : ترد صدقتها .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم : ذلك ماض والأمر فيهما واحد ، الزوجة والموصي ، وأرى أن تجوز الوصية إذا كانت الثلث ، وإن قصد بها ضرر الورثة ، ومحمل الآية على ما زاد على الثلث; لأنه حينئذ قد وصى بأموالهم وذلك ضرر حقيقة ، وأما إذا كانت الوصية بالثلث فهو ماله ، له أن يجعله في العتق والصدقة أو أي [ ص: 3647 ] القرب أحب ، وإن كان قد أشرك في النية ألا يتركه لورثته ، وقد يكون وارثه ولدا عاقا ، أو سفيها يتلف ماله فيما لا يحل ، أو عاصيا يكون عدوا له ، فلا يجب أن يترك ثلثه لمثل هؤلاء فلا يمنع من الوصية .

                                                                                                                                                                                        وإن أراد أن يوصي لموسر وغير ذلك مما لا يراد به الأجر لأشبه أن يمنع إذا أراد ضرر الورثة .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد فيمن قال : غلامي يخدم فلانا لبعض ورثته حتى يبلغ ، ثم هو حر ، فإن لم يجز الورثة فثلثي صدقة ، كانت الخدمة لجميع الورثة ، ثم يكون حرا إذا بلغ الوارث ، وهذا إذا أخرج من الثلث .

                                                                                                                                                                                        قال محمد : وإنما وقع الضرر ها هنا في الوصية بالخدمة ، وأما الحرية فجائزة قائمة إلى وقتها .

                                                                                                                                                                                        القسم السابع : فإن عال على الثلث ، وأخذ الحاضر ، وترك لهم الغائب ، كان الورثة بالخيار بين أن يجيزوا الوصية حسبما وصى ، أو يجمعوا له ثلثه في الحاضر حسبما قصد ، ويرد الزائد على الثلث ، أو يقطعوا بثلث الحاضر والغائب . [ ص: 3648 ]

                                                                                                                                                                                        القسم الثامن : وإن اجتمع فيها عول ومبايعة وجعلها فيما يضر بهم ، وإن أوصى بمعينات ، وصى لهذا بعبد ، ولهذا بدار ، ولهذا بثوب ، وضاق الثلث ، تحاصوا ، وضرب لكل واحد بقيمة وصيته .

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا اشتملت على أجزاء ، وأوصى هذا بسدس ماله ، ولهذا بثلثه ، ولهذا بنصفه ولم يجز الورثة ، تحاصوا الثلث أسداسا وأخذ الموصى له بالسدس سدس الثلث ، والآخر ثلثه ، والآخر نصفه .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا اشتملت على جزء وشيء بعينه على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                        فقال مالك في المدونة : يتحاص جميعهم في الثلث .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو محمد عبد الوهاب : فيها ثلاث روايات :

                                                                                                                                                                                        إحداها : البداية بالجزء .

                                                                                                                                                                                        والثانية : أن تبدأ التسمية على الجزء .

                                                                                                                                                                                        والثالثة : أنهم يتحاصون بقدر وصاياهم .

                                                                                                                                                                                        فأما تبدية الجزء إذا وصى هذا بثلثه ، ولآخر بعبد ، ولآخر بدار; فلأن الثلث للميت يصرفه حيث أحب ، والعبد والدار من الثلثين ، وهما حق للورثة ، فإذا لم يجيزوا ، سقطت وصيتهم ، ولو أوصى لرجل بسدس ماله ، [ ص: 3649 ] ولآخر بدار هي قدر ثلثه ، بدي بالسدس ، ويخير الورثة بين أن يجيزوا الدار ، أو يقطعوا له منها بتمام الثلث .

                                                                                                                                                                                        وأما تبدية العبد أو الدار على الثلث فإنه حمل الميت في وصاياه على أن يريد بها الثلث ، ولا يزيد فيها شيئا من غيره كأنه انتزع التسمية من الثلث ، وجعل الباقي لصاحب الثلث ، ويلزم على هذا ألا يقال : إنه عال في وصيته ، ولا يقال للورثة إنه قد وصى بأكثر من الثلث فهل تجيزون؟

                                                                                                                                                                                        والقياس تبدية الثلث; لأنه أوصى به; لأنه هو الذي يملك من التركة ، ولا مقال فيه عليه ، وما سوى ذلك فقد جعله من الثلثين ، فإن أجازت الورثة ، وإلا سقط .

                                                                                                                                                                                        وقيل أيضا : إذا أوصى بثلثه لرجل ، وبعبد لآخر إن ثلث العبد قد وصى به مرتين; لأن ثلثه داخل في الوصية لصاحب الثلث ، فيكون الثلث بينهما نصفين ، وقيل فيمن أوصى لرجل بنصف ماله ، ولآخر بثلثه فإن أجازت الورثة لصاحب النصف ، ولم تجز للآخر فإن الثلث يضرب فيه الموصى له بالنصف بثلاثة أسهم والآخر بسهمين ، فيصير لصاحب النصف ثلاثة أخماس الثلث ، ويتم له الورثة من مال الميت تمام النصف ، وإن أجازوا لصاحب النصف ، ولم يعلموا بالموصى له بالثلث ، كان للموصى له بالنصف سدس المال [ ص: 3650 ] بإجازة الورثة ، ثم يضرب هو والموصى له في الثلث بضرب الموصى له بالنصف بثلاثة أسهم ، ويضرب الآخر بسهمين فيصير له خمسا الثلث ، وللآخر ثلاثة سهام والسدس . [ ص: 3651 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية