الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في شروط الجلوس للقضاء وما يتحلى القاضي من الآداب]

                                                                                                                                                                                        ولا يجلس القاضي للقضاء وهو على صفة يخاف ألا يأتي بالقضية على وجهها، وكذلك إذا حدث بعد أخذه في القضاء مثل ذلك، فإنه يقوم ويدع القضاء، وذلك كالغضب والضجر والهم والجوع والعطش والحقن، وإن أخذ من الطعام فوق ما يكفيه لم يجلس، والأصل في هذه الجملة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" أخرجه البخاري. [ ص: 5327 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا دخله ضجر، فقال محمد بن عبد الحكم: لا بأس أن يحدث جلساءه إذا مل، يروح قلبه، ثم يعود إلى الحكم. وقال ابن حبيب: يقوم. والأول أحسن، وهو أخف من قيامه وصرف الناس. ولا يحكم متكئا; لأن فيه استخفافا بالحاضرين، وللعلم حرمة. ولا بأس أن يحكم وهو ماش، في مسألة نص أو ما خف من مسائل الاجتهاد، ولا يجوز له ذلك فيما غمض وكان يحتاج إلى روية.

                                                                                                                                                                                        واختلف في جلوس أهل العلم معه، فقال محمد بن المواز: لا أحب له أن يقضي إلا بحضرة أهل العلم معه ومشاورتهم، وهو قول أشهب قال: وكان عثمان -رضي الله عنه- إذا جلس للقضاء أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه. ومنع ذلك مطرف وابن الماجشون، قالا: ولكن إذا ارتفع عن مجلس القضاء شاور.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: ذلك على قدر حالة القاضي، فإن كان لا يدركه انحصار لحضورهم كان حضورهم أحسن، ولا يزيده ذلك إلا خيرا وبصيرة، [ ص: 5328 ] وإن كان يدركه انحصار لذلك لم يحضرهم، إلا أن يكون القاضي مقلدا فلا يسعه القضاء إلا بحضورهم.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: ولا يدع مشاورة أهل الفقه عندما يتوجه الحكم، ولا يجلس للقضاء إلا بمحضر عدول؛ ليحفظوا إقرار الخصوم؛ خوف رجوع بعضهم عما يقر به. وإن كان ممن يقضي بعلمه، فإن أخذه بما لا خلف فيه أحسن.

                                                                                                                                                                                        ويقدم الخصوم الأول فالأول، إلا أن يكون مثل المسافر أو ما يخشى فواته، وإن تعذر معرفة الأول- كتب أسماءهم في بطائق وخلطت، فمن خرج سهمه بدئ به، وذلك كالقرعة بينهم.

                                                                                                                                                                                        ويفرد النساء عن الرجال بالخصومة إذا كانت الخصومة بينهن، ويجعل لهن وقتا لا يخالطهن فيه الرجال.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلفت خصوماتهن، فكان بعضها بينهن وبعضها مع الرجال- جعل الخصومات ثلاث مراتب: للرجال فيما بينهم وقت، ولمن كانت خصومتهم مع النساء وقت، وللنساء فيما بينهن وقت.

                                                                                                                                                                                        وإن تعذر ذلك عليه أو عجز عنه، عزل النساء وأبعد مجلسهن عن الرجال، وتمنع المرأة ذات [ ص: 5329 ] الجمال أو المنطق الرخيم أن تباشر الخصومة، وكره مالك الخصومة لذوي الهيئات من الرجال.

                                                                                                                                                                                        وإذا جلس الخصمان سوى بينهما في المجلس والنظر والكلام، ولا يقرب أحدهما إليه، ولا يقبل عليه دون خصمه; لأن ذلك يوهن الآخر ويوقع الظنة.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب: يسوي بينهما وإن كان أحدهما ذميا. وقيل: لا يسوي بينهما لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تساووهم في المجلس".

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يجلسا جميعا بين يديه مجلس الحكومة، ويتقدمه المسلم بالشيء اليسير.

                                                                                                                                                                                        ومن المجموعة: وإذا جلس الخصمان بين يدي الحاكم فلا بأس أن يقول لهما ما لكما، أو ما خصومتكما، أو يتركهما حتى يبتدئانه، فإذا تكلم المدعي أسكت المدعى عليه، واستمع من المدعي، ثم يأمره بالسكوت ويستنطق الآخر، ولا يفرد أحدهما بالسؤال، فيقول: ما لك؟ أو تكلم، إلا أن يكون علم أنه المدعي، ولا بأس إذا لم يعلم أن يقول: أيكما المدعي؟ فإن قال [ ص: 5330 ] أحدهما: أنا، وسكت الآخر ولم ينكر، فلا بأس أن يسأله، وأحب إلي ألا يسأله حتى يقر له الآخر بدعواه، وإن قال أحدهما: هذا المدعي، فلا بأس أن يسأله، فإن قال له: تكلم، فقال له: لست بمدع، فأقام على ذلك كل واحد منهما، يقول لصاحبه: هذا المدعي. فللقاضي أن يقيمهما عنه حتى يأتي أحدهما إلى الخصومة.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ: فإن اختلفا فقال كل واحد منهما أنا الطالب، وقال: إنما أحدث الآخر الدعوى عندما طلبته، فإن علم أن أحدهما أشخص الآخر، وأنه كان يطالبه بدأ به وإلا صرفهما، فإن أبى أحدهما إلا الخصومة بدأ به، وإن بقي كل واحد منهما متعلقا بالآخر أقرع بينهما، وإن كان لكل واحد منهما طلب على الآخر، وتشاحا فيمن يبتدأ به أقرع بينهما.

                                                                                                                                                                                        وقيل: الحاكم بالخيار. واستحب محمد بن عبد الحكم أن يبتدئ بالنظر لأضعفهما. [ ص: 5331 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا ادعى أحدهما على الآخر دعوى، فلم يقر المدعى عليه ولم ينكر، فقال محمد: قال مالك -فيمن كانت بيده دار ادعى رجل أنها لأبيه أو لجده، فسئل من هي بيده فلم يقر ولم ينكر-: أنه يجبر على أن يقر أو ينكر، قال محمد: فإن لم يرجع فيقر أو ينكر حكمت عليه للمدعي بلا يمين.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ -في كتاب ابن حبيب-: أن القاضي يقول له: إما أن تخاصم وإما أحلفت هذا المدعي وحكمت له عليك، إن كانت الدعوى يستحق بها مع نكول المطلوب عن اليمين، إذا أثبت لطخا لأن نكوله عن الكلام نكول عن اليمين وإن كان مما لا يثبت إلا بالبينة دعاهم بها، ولا يسجنه حتى يتكلم.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ: المدعي بالخيار بين ثلاث، بين أن يأخذ ذلك بغير يمين، على أنه متى عاد المدعى عليه إلى الإنكار والخصومة كان ذلك له، وبين أن يحلفه الآن ويحكم له به ملكا، بعد أن يعلم المدعى عليه أنه إن لم يقر أو ينكر حكم عليه، كما يحكم على الناكل، ولا ينقض له الحكم بعد ذلك إن أتى بحجة، ولكن إن أتى ببينة لم يكن علم بها، كما لا ينقض حكم من خاصم بالاحتجاج وينقض بالبينات، وإن أحب سجن له حتى يقر أو ينكر; لأنه [ ص: 5332 ] يقول: هو يعلم أن حقي حق، وقد يقر إذا سجن فلا أحلف.

                                                                                                                                                                                        وهذا كما قالوا في الشفيع يكتمه المشتري الثمن، فقد اختلف فيه هل يسجن له الآن حتى يقر أو ينكر؟ أو يقال له: خذ الآن ولا وزن عليك حتى يثبت الثمن؟ وهذا إذا كانت الدعوى في معين، دار أو عبد.

                                                                                                                                                                                        وإن كانت في شيء في الذمة فأقام لطخا، فكذلك وإن لم يقم لطخا لم تسمع دعواه، وإن ادعت الزوجة الطلاق فلم يقر الزوج ولم ينكر، سجن حتى يقر أو ينكر، ويحال بينه وبينها، وتطلق عليه إذا طال الأمر لحقها في الوطء، وإن ادعت عليه النكاح سجن حتى يقر أو ينكر، ولو ادعى هو عليها نكاحا فلم تقر ولم تنكر، حيل بينها وبين الأزواج حتى تقر أو تنكر، وكذلك السيد يدعي عليه عبده العتق فإنه يسجن حتى يقر أو ينكر.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية