الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الشهادة على الشهادة

                                                                                                                                                                                        الشهادة على الشهادة جائزة، إذا كان المنقول عنه مريضا أو غائبا أو ميتا، وإن كان حاضرا قادرا على أدائها بنفسه، لم تنقل عنه لإمكان أن يكون تأخره لريبة، لو حضر ثبتت عليه، فيؤدي ذلك إلى البحث والكشف، ولأن قبول الشهادة من شهود الأصل أسلم وأحوط; لأن شهود الأصل يمكن منهم السهو والغلط وتعمد الكذب، ويمكن مثل ذلك من الناقلين، فكان من حق المشهود عليه أن يؤدي الشاهد الشهادة بنفسه; لأن تخوف ذلك منهم أخف من تخوفه من الفريقين.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون -في كتاب ابن حبيب-: ينقل عن النساء وإن كن حضورا وذلك الشأن.

                                                                                                                                                                                        واختلف في حد الغيبة وفي عدد الناقلين عنهم، وهل يدخل النساء في النقل؟ فقال ابن القاسم -في كتاب محمد-: إن كانت الشهادة في الحدود لم تنقل عنهم، إلا في الغيبة البعيدة، وأما اليومان والثلاثة فلا، ويجوز ذلك في غير الحدود. وقال سحنون: إن كانت المسافة تقصر في مثلها الصلاة، أو الستين ميلا كتب القاضي إلى رجل تشهد عنده البينة، ولم يفرق بين أن تكون [ ص: 5451 ] الشهادة في مال أو حد. وقال ابن القاسم -في المدونة فيمن أراد أن يحلف خصمه، لغيبة بينته ثم يقوم بها- قال: إن كانت الغيبة قريبة اليوم واليومين والثلاثة، قيل له قرب بينتك، وإلا فاستحلفه على تركها. والأول أحسن. والاحتياط للحدود أولى.

                                                                                                                                                                                        وأما العدد فذهب ابن القاسم إلى أنه كالشهادة على ذلك الأصل الذي يشهد فيه المنقول عنهم، فإن كان مالا جاز أن ينقل رجلان أو رجل وامرأتان، وإن كان نكاحا أو طلاقا أو حدا غير الزنا، جاز نقل رجلين ولم يجز نقل النساء. وإن كانت عن معاينة الزنا جاز أن ينقل أربعة عن كل واحد من الأربعة، أو اثنان عن كل اثنين، أو اثنان عن ثلاثة، أو اثنان عن واحد، ولا ينقل واحد عن واحد.

                                                                                                                                                                                        كذلك المال والنكاح، ينقل الاثنان عن كل واحد من شهود الأصل، ولا ينقل واحد عن واحد، وواحد عن واحد، وإن كان النقل عن حكم قاض [ ص: 5452 ] بمال جاز على قوله شهادة رجل وامرأتين.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون - في المبسوط في الشهادة على السماع-: أقل ما يجزئ في ذلك شهادة أربعة. قال: وذلك أنه شبيه بالشهادة على الشهادة، فلا يجزئ على قوله في المال والحدود وما سوى الزنا أقل من أربعة، وإن نقل عن حكم قاض فإن كانت الشهادة على القاضي بحكم تضمن مالا أجزأ اثنان، وإن كانت الشهادة على بينة في الحكم لم يجز أقل من أربعة.

                                                                                                                                                                                        وقال -في النقل عن شهود الزنا-: ينقل أربعة عن كل واحد ولا يتكرروا. والأول أبين والحكم في النقل كالمنقول عنهم. وأجاز أشهب نقل اثنين في الأموال، ولم يجز نقل النساء فيه; لأن النقل ليس بمال وإن كان المستحق به مالا.

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الملك -في كتاب محمد-: إن شهد رجلان على شهادة واحد، ثم شهد أحدهما وآخر معه على شهادة رجل آخر على ذلك الحق لم تجز. [ ص: 5453 ]

                                                                                                                                                                                        قال: وإنما حيي ذلك الحق بواحد، ألا ترى أنه إنما شهد رجلان على شهادة رجل، وشهد آخر على شهادة رجل آخر، فلم يجز ولم يقطع بها، حتى رجع أحدهما فشهد مع الآخر، حتى أنفذ ما وقف من شهادتهما. وقال محمد: ذلك جائز، وإنما هو رجل شهد على شهادة رجلين، فلو جاء آخر فشهد عليها ثبتت الشهادة.

                                                                                                                                                                                        وهذا الذي قاله محمد لا تهمة فيه، وإنما جاوب عبد الملك إذا تقدم نقلها عن واحد، ثم نقل أحدهما مع آخر، فاتهمه لما تقدم وقوف شهادته أن يشهد مع هذا؛ لتمضي شهادته، وعلى أن قوله لو أتى الثلاثة معا لم يقض بشهادتهم، إلا أن يكونوا أربعة.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: وإن شهد رجلان على شهادة رجل في ذكر حق، وعدلا آخر شهد فيه جاز، وإن شهد شاهدان في ذكر حق لم يجز أن يعدل أحدهما الآخر. قال: وإن شهد العدول على شهادة رجل، ثم شك المنقول عنه بعد طول زمان، أو أنكرهما لم تجز شهادته، إلا أن يكون قد [ ص: 5454 ] صار ذلك إقرارا على نفسه، أو آل إلى أن يجر إلى نفسه بجحوده منفعة.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في هذا الأصل، فقيل فيمن حدث بحديث ثم نسيه، يجوز أن يسمع ممن كان سمعه، وإن كان يرويه الأول عمن كان سمعه منه، وليس النقل بتعديل للمنقول عنهم; لأنهم إنما نقلوا لفظا سمعوه، ومجرد النقل لا يقتضي تعديلا، ولا ينبغي أن ينقل عن مجرح، خوف أن يخطئ الحاكم، أو يدلس عليه فيحكم به، ولا بأس بالنقل عمن لا يعلمه بجرح ولا تعديل، وبقية ما يتعلق بهذا الفصل مذكور في كتاب الرجم.

                                                                                                                                                                                        واختلف في نقل النساء، فقال ابن القاسم: يجوز نقلهن فيما تجوز فيه شهادتهن، فينقل رجل وامرأتان عن رجلين شهدا بمال، فتكون الشهادة قد تمت، وعن رجل وامرأتين، فيحلف المشهود له على شهادة المنقول عنه وعن امرأة فتكون ربع شهادة، وعن رجل أو امرأتين شهدتا على طلاق أو عتق أو قتل، فيحلف الزوج أو السيد ويقسم الأولياء، ولا يصح نقل امرأتين [ ص: 5455 ] شهدتا بانفرادهما في شيء من ذلك، كما لا يجوز نقل رجل عن رجل ولا عن امرأتين.

                                                                                                                                                                                        واختلف في نقل امرأتين عن امرأتين، شهدتا على ولادة أو استهلال. فقال أصبغ: يجوز نقلهما بانفرادهما قياسا على الشهادة في ذلك الأصل. وقال ابن القاسم: لا يجوز في ذلك إلا رجل وامرأتان، ولا يجوز نقل أربع نسوة، وهو أصوب; لأن الأول أجيز للضرورة، لما كان لا يحضره غيرهن، ولا ضرورة في النقل ولا في الاقتصار عليهن.

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب وعبد الملك: لا يجوز نقلهن للشهادة بحال، لا في مال ولا في غيره، ولا تجوز إلا حيث تجوز شاهد ويمين، والنقل لا يجوز ذلك فيه. [ ص: 5456 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية