الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

5063 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما خلق الله العقل قال له : قم فقام ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : اقعد فقعد ، ثم قال : ما خلقت خلقا هو خير منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك أعرف ، وبك أعاتب ، وبك الثواب ، وعليك العقاب " . وقد تكلم فيه بعض العلماء .

التالي السابق


الفصل الثالث

5063 - ( عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لما خلق الله العقل قال له : قم فقام ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : اقعد فقعد ) : ظاهر الحديث أنه خلق مجسدا مجسما كما يخلق الموت على صورة كبش يذبح بين الجنة والنار ، أو المراد بالقيام والقعود والإقبال والإدبار أمور معنوية حاصلة منه ناشئة عنه باعتبار اختلاف أرباب العقول ، ولعل القيام كناية عن الظهور والقعود عن خفائه ، والإقبال عن توجهه إلى شيء ، والإدبار عن إعراضه عنه بحسب ما تعلق به المشيئة والإرادة الأزلية . قال الطيبي : المجموع كناية عن أن العقل هو محل التكليف ، وإليه تنتهي الأوامر والنواهي ، وبه يتم غرض خلق المكلفين من العبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لأجلها ويدل عليه ما بعده . قلت : الصواب وضع الحكمة موضع العرض لأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض . ( ثم قال له : ما خلقت خلقا هو خير منك ) أي : في حد ذاته ، فإنه جوهر شريف يحتاج إليه الوضيع والشريف ، ومن جملة الدلالة على كماله أن كل أحد يغضب من نسبة فقده أو نقصانه إليه ( ولا أفضل منك ) : لحصول الفضائل والفواضل وزيادة العبادات والدرجات به ( ولا أحسن منك ) أي : حسن المعاشرة وتحسين المعاملة ( بك ) أي : بسببك أو بقدرك ( آخذ ) أي : العبادات من عبادي ( وبك أعطي ) أي : الثواب والدرجات ( وبك أعرف ) بصيغة المجهول أي ذاتا وصفة وحكما ( وبك أعاتب ) أي : على من أعاتب ، فإن المجنون ونحوه لا عتب عليه . ( وبك الثواب ) أي : وصوله حال الإقبال ( وعليك العقاب ) أي : حصوله وقت الإدبار ، واعلم أن شرف العقل إنما هو لكونه سببا للعلم المنتج للعمل المؤدي إلى السعادة الأبدية ، وسمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عما لا ينبغي ، كما يسمى نهية لأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر . وقال الراغب : العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم ، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ، ولهذا قيل :


فإن العقل عقلان فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع
إذ لم يك مطبوع [ ص: 3168 ] كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع

وإلى الأول أشار بقوله عليه السلام : " ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل " وإلى الثاني أشار بقوله : " ما كسب أحد شيئا أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يرده عن ردى " وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى : وما يعقلها إلا العالمون قلت : الظاهر أنه كما لا ينفع مسموع بلا مطبوع ، كذلك لا ينفع مطبوع بلا مسموع . ألا ترى أن الحكماء مع أنهم أكبر العقلاء ما نفعهم مجرد عقولهم المطوعة من غير متابعتهم للأنبياء وأقوالهم المسموعة . وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ونظيره المشاهد لكل أحد : الأصم الخلقي ، فإنه ينتفع بعقله المطبوع وليس له حظ من العقل المسموع ، ثم هذا الحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان ، كما أجمله المؤلف في آخر الفصل وقال هنا : ( وقد تكلم فيه ) أي : في ضعف هذا الحديث أو وقد طعن في ثبوته ( بعض العلماء ) . ففيه تنبيه نبيه على اختلاف العلماء في حقه ، لكن قال السخاوي في المقاصد : إنه كذب موضوع اتفاقا ، ثم رأيت في مختصر الشيح محمد بن يعقوب الفيروزآبادي أنه قال : أول ما خلق الله العقل إلخ . ضعيف . وما خلق الله خلقا أكرم من العقل للحكيم . ضعيف ، وفي شرح الطيبي قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحديث الذي ذكروه كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث ، كما ذكر ذلك أبو جعفر العقيلي ، وأبو حاتم السبتي ، وأبو الحسن الدارقطني ، وابن الجوزي وغيرهم اهـ . ووجه ذكر هذا الحديث في باب الحذر والتأني في الأمور ظاهر من نتائج العقل ، والله أعلم .




الخدمات العلمية