الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5352 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة فرأى الناس كأنهم يكتشرون ، قال : " أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى الموت ، فأكثروا ذكر هاذم اللذات ، الموت ، فإنه لم يأت على القبر إلا تكلم ، فيقول : أنا بيت الغربة ، وأنا بيت الوحدة ، وأنا بيت التراب ، وأنا بيت الدود ، وإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر : مرحبا وأهلا ، أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي ، فإذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك " ، قال : " فيتسع له مد بصره ، ويفتح له باب إلى الجنة ، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر : لا مرحبا ولا أهلا ، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي ، فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك " قال : " فيلتئم عليه حتى يختلف أضلاعه " ، قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعه ، فأدخل بعضها في جوف بعض ، قال : " ويقيض له سبعون تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا ، فينهسنه ويخدشنه حتى يفضي به إلى الحساب " ، قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار " . رواه الترمذي .

التالي السابق


5352 - ( وعن أبي سعيد قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة ) أي : لأداء صلاة ، والظاهر المتبادر من مقتضى المقام أنها صلاة جنازة لما ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - إذا رأى جنازة رئيت عليه كآبة أي : حزن شديد ، وأقل الكلام ، ( فرأى الناس كأنهم يكتشرون ) أي : يضحكون ، من الكشر : وهو ظهور الأسنان للضحك ، ولعل التاء للمبالغة ، ففي القاموس : كشر عن أسنانه : أبدى ، يكون والضحك وغيره ، انتهى . فيؤخذ منه أنهم جمعوا بين الضحك البالغ والكلام الكثير ، قال التوربشتي - رحمه الله - : أي يضحكون ، والمشهور في اللغة الكسر ، ( قال : " أما " ) بالتخفيف لينبه على نوم الغفلة الباعث على الضحك والمكالمة ( " إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات " ) بالدال المهملة في أصل السيد وأكثر النسخ المعتمدة ، وفي بعضها بالذال المعجمة ، واقتصر عليه السيوطي - رحمه الله - في حاشية الترمذي ، وفي القاموس : هذم بالمعجمة : قطع وأكل بسرعة ، وبالمهملة : نقض البناء ، [ ص: 3354 ] والمعنى : لو أكثرتم من ذكر قاطع اللذات ( " لشغلكم عما أرى " ) أي : من الضحك وكلام أهل الغفلة ( " الموت " ) بالجر : تفسير لهادم اللذات أو بدل منه ، كما يأتي فيما بعده ، وبالنصب : بإضمار أعني ، وبالرفع بتقدير هو الموت ، ( " فأكثروا ذكر هادم اللذات " ) أي : الموجودة المعمولة للأغنياء ، والمفقودة المسؤولة للفقراء ، فهو موعظة بليغة للطائفتين ، ومن الغريب أن ذكر الموت يحيي القلب النائم ، والنوم أخو الموت ، وكان شيخنا العارف بالله تعالى - رحمه الله - الولي مولانا نور الدين علي المتقي يعمل كيسا مكتوبا عليه لفظ الموت ، يعلق في رقبة المريد ليستفيد منه أنه قريب غير بعيد ، فيقصر أمله ويكثر عمله ، وكان بعض الصالحين من السلاطين أمر واحدا من أمرائه أن يقف دائما من ورائه يقول : الموت الموت ليكون دواء لدائه ، ثم أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - بين للصحابة وجه حكمة الأمر بإكثار ذكر الموت وأسبابه بقوله : ( " فإنه " ) أي : الشأن ( " لم يأت على القبر يوم " ) أي : وقت زمان ( " إلا تكلم " ) أي : بلسان القال أو بيان الحال ، وفي رواية زيادة فيه أي في ذلك اليوم ( " فيقول : أنا بيت الغربة " ) أي : فكن في الدنيا كأنك غريب ( " وأنا بيت الوحدة " ) أي : فلا ينفع إلا التوحيد وشهود الواحد القهار ( " وأنا بيت التراب " ) أي : أصل كل حي مخلوق ، فمن مرجعه للتراب ينبغي أن يكون مسكينا ذا متربة لئلا تفوته جنسية المناسبة ، ( " وأنا بيت الدود " ) أي : فلا ينبغي أن تكون همتكم ونهمتكم في استعمال اللذات من المأكول والمشروب ; لأن مآل أمرها إلى الفناء ، ولا ينفع في ذلك المكان إلا العمل الصالح ، فالقبر صندوق العمل ، قيل : يتولد الدود من العفونة وتآكل الأعضاء ثم يأكل بعضها بعضا ، إلى أن تبقى دودة واحدة فتموت جوعا ، واستثنى الأنبياء ، والشهداء ، والأولياء ، والعلماء من ذلك فقد قال - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ، وقد قال تعالى في حق الشهداء : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، والعلماء العاملون المعبر عنهم بالأولياء مدادهم أفضل من دماء الشهداء ، ( " وإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر " ) أو ما يقوم مقامه ( " مرحبا " ) أي : أتيت مكانا واسعا لرقدتك ( " وأهلا " ) أي : وحضرت أهلا لمحبتك ( " أما " ) بتخفيف الميم للتنبيه ( " إن كنت " ) أي : إنه كنت فإن مخففة من المثقلة ، واللام فارقة بينها وبين أن النافية في قوله : ( " لأحب " ) وهو أفعل تفضيل بني للمفعول أي : لأفضل ( " من يمشي على ظهري إلي " ) : متعلق بأحب ( " فإذ " ) بسكون الذال ، وأبعد الطيبي حيث قال : وفي إذ معنى التعليل إذ الصحيح أنه هنا ظرف محض ، والعلة والسبب كونه مؤمنا أي : فحين ( " وليتك " ) : من التولية مجهولا ، أو من الولاية معلوما أي : صرت قادرا حاكما عليك ( " اليوم " ) أي : هذا الوقت ، وهو ما بعد الموت والدفن ( " وصرت إلي " ) أي : مقهورا ومجبورا ( " فسترى " ) أي : ستبصر أو تعلم ( " صنيعي بك " ) : من الإحسان إليك بالتوسيع عليك .

( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أعاده لطول الكلام ; ولئلا يتوهم أن ما بعده من كلام الراوي تفسير للمرام ( " فيتسع " ) أي : فيصير القبر وسيعا ، وفي رواية : فيوسع ( " له " ) أي : للمؤمن ( " مد بصره " ) أي : من كل جانب ، حقيقة ، أو كشفا ، أو مجازا عن عدم التضييق حسا ومعنى ، وفيه كناية عن تنويره أيضا ، ( " ويفتح له باب إلى الجنة " ) أي : ويعرض له مقعده منها ، يأتيه من روحها ونسيمها ، ويشم من طيبها ، وتقر عينه بما يرى فيها من حورها وقصورها وأنهارها وأشجارها وأثمارها ، ( " وإذا دفن العبد الفاجر " ) أي : الفاسق ، والمراد به الفرد الأكمل ، وهو الفاسق ، بقرينة مقابلته لقوله : العبد المؤمن سابقا ، ولما سيأتي من قول القبر له بكونه أبغض من [ ص: 3355 ] يمشي على ظهره ، ومنه قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا الآية ، ( " أو الكافر " ) : شك من الراوي لا للتنويع ، وقد جرت عادة الكتاب والسنة على بيان حكم الفريقين في الدارين ، والسكون عن حال المؤمن الفاسق سترا عليه ، أو ليكون بين الرجاء والخوف ، لا لإثبات المنزلة بين المنزلتين كما توهمت المعتزلة ، ( " قال له القبر : لا مرحبا ولا أهلا ، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي ، فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك " . قال ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - : ( " فيلتئم " ) أي : ينضم القبر ( " عليه حتى تختلف أضلاعه " ) أي : يدخل بعضها في بعض ، وفي رواية : حتى تلتقي وتختلف أضلاعه .

( قال ) أي : الراوي ( وقال ) أي : أشار ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعه ) أي : من اليدين الكريمتين ( فأدخل بعضها ) وهو أصابع اليد اليمنى ( في جوف بعض ) وفيه إشارة إلى أن تضييق القبر واختلاف الأضلاع حقيقي ، لا أنه مجاز عن ضيق الحال ، وأن الاختلاف مبالغة في أنه على وجه الكمال ، كما توهمه بعض أرباب النقصان ، حتى جعلوا عذاب القبر روحانيا لا جسمانيا ، والصواب أن عذاب الآخرة ونعيمها متعلقان بهما .

( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( " ويقيض " ) بتشديد الياء المفتوحة أي : يسلط ويوكل ( " له " ) أي : بخصوصه وإلا فهو عليه ( " سبعون تنينا " ) بكسر التاء وتشديد النون الأول مكسورة أي : حية عظيمة ، يقال له : أزرد بالفارسي وبالعربي أفعى ، وعدد السبعين يحتمل التحديد والتكثير ، ويؤيد الثاني ما ذكره في الإحياء عن أبي هريرة مرفوعا " هل تدرون فيما إذا أنزلت فإن له معيشة ضنكا قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " عذاب الكافر في قبره ، يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، هل تدرون ما التنين ؟ " قال : " تسعة وتسعون حية لكل واحدة تسعة وتسعون رأسا يخدشنه ، ويلحسنه ، وينفخن في جسمه إلى يوم القيامة " انتهى . ( " لو أن واحدا منها نفخ " ) الخاء المعجمة أي : تنفس ( " في الأرض ما أنبتت " ) أي : الأرض ( " شيئا " ) أي : من الإنبات أو النباتات ( " ما بقيت الدنيا " ) أي : مدة بقائها ( " فينهسنه " ) : بفتح الهاء وسكون السين المهملة ، أي : يلدغنه ، وفي القاموس : نهس اللحم ، كمنع وفرح ، أخذه بمقدم أسنانه ونتفه ( " ويخدشنه " ) بكسر الدال أي : يخرجنه ( " حتى يفضي " ) بفتح فسكون فاء ففتح ضاد معجمة أي : يوصل ( " به " ) أي : بالكافر ( " إلى الحساب " ) أي : وثم إلى العقاب ، وفيه دليل على أن الكافر يحاسب ، خلافا لما توهم بعضهم أن الكافر يدخل النار بغير حساب ، اللهم إلا أن يقال : المراد بالحساب الجزاء ، وأن ظواهر الآيات من قوله : وأما من خفت موازينه فصريح في حسابهم ، نعم يمكن أن يكون بعضهم من العصاة العتاة يدخلون النار من غير حساب ولا كتاب ، كما يدخل بعض المؤمنين المبالغين في الصبر والتوكل على ما سبق بغير حساب ، والله تعالى أعلم بالصواب .

( قال ) أي : الراوي ( وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : في هذا المحل أو في وقت آخر ، فتأمل ، ( " إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار " ) بصيغة الإفراد المناسبة للفظة الجنة ، وفي نسخة : النيران لمناسبة جمع الحفر ولأن المراد بالجنة الجنان ، قال الطيبي - رحمه الله - : قوله : من حفر النار كذا في جامع الترمذي ، وجامع الأصول ، وأكثر نسخ المصابيح ، وفي بعضها : النيران بالجمع . ( رواه الترمذي ) .

[ ص: 3356 ] قال السيوطي - رحمه الله - : وحسنه ، وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في جنازة ، فجلس إلى قبر فقال : " ما يأتي على هذا القبر من يوم وهو ينادي بصوت طلق ذلق : يا ابن آدم ! كيف نسيتني ؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة ، وبيت الغربة ، وبيت الوحشة ، وبيت الدود ، وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه " ثم قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " القبر روضة " ، وفي نسخة : " إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " ، قال سفيان الثوري : من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة ، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار .




الخدمات العلمية