الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
55 - وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آية المنافق ثلاث " . زاد مسلم : " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " ، ثم اتفقا : ( إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .

التالي السابق


55 - ( وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ) وإنما لم يقل : وعنه ؛ لئلا يتوهم رجوع الضمير إلى ابن عباس ، أو البخاري ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( آية المنافق ) أي علامة نفاقه الدال على قبح نيته وفساد طويته ، وأصله من يظهر خلاف ما يضمر ، ثم غلب على من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ( ثلاث ) أي خصال ، والآية : العلامة ، وإفرادها إما على إرادة الجنس أي كل واحد منها آية أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث ، ويؤيد الأول ما ورد في صحيح أبي عوانة بلفظ : علامات المنافق ثلاث . فإن قيل : ظاهر الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ : أربع من كن فيه . . . الحديث ؟ أجاب القرطبي باحتمال أنه - عليه الصلاة والسلام - استجد له العلم بخصالهم ما لم يكن عنده ، وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني : ليس بين الحديثين تعارض ؛ لأنه لا يلزم من عد الخصلة كونها علامة على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر ، فإن لفظه من علامة المنافق ثلاث ، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وبعضها في وقت آخر . ( زاد مسلم : ( وإن صام وصلى ) التثنية للتكرير والاستيعاب . أي وإن عمل عمل المسلمين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات ، وفي رواية : وإن صلى ، وصام ، وحج ، واعتمر ، وقال إني مسلم . وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعي الجواب . ( وزعم ) أي ادعى ( أنه مسلم ) أي كامل ( ثم اتفقا ) أي البخاري ومسلم ، فقالا : ( إذا حدث كذب ) وهو أقبح الثلاثة ، والجملة خبر بعد خبر ( وإذا وعد ) أي أخبر بخير في المستقبل إذ " وعد " يغلب في الخير ، و " أوعد " في الشر ، وأيضا الخلف في الوعيد من مكارم الأخلاق ، قال الشاعر :


وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

( أخلف ) أي جعل الوعد خلافا بأن لم يف بوعده ، ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها أن الإخلاف قد يكون بالفعل ، وهو غير الكذب الذي هو لازم التحديث ، وليس فيه ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد ؛ لأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمينه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد لا إن طرأ له كما هو واضح على أن علامة النفاق لا يلزم تحريمها ، إذا المكروه لكونه يجر إلى الحرام يصح أن يكون علامة على المحرم ، ونظيره علامات الساعة ، فإن منها ما ليس بمحرم ( وإذا اؤتمن ) بالبناء للمجهول أي جعل أمينا . قال ابن حجر : وفي رواية : اتمن ، بتشديد التاء لقلب همزته الثانية واوا وإبدالها وإدغام التاء في التاء اهـ .

ولعل هذا الإعلال قبل دخول إذا عليه ، ومع هذا قال البيضاوي في قوله تعالى : ( فليؤد الذي اؤتمن ) قرأ ورش والسوسي " الذي يتمن " بقلب الهمزة ياء ، وقرئ " والذتمن " بإدغام ، وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها ، فلا تدغم اهـ .

ولذا قال المحققون من القراء : قراءة هذا بالتشديد مخالف للرواية والدراية ، فالصحيح في الرواية هنا إما بالهمزة الساكنة أو إبدالها ألفا ( خان ) ورواه ابن ماجه والترمذي ، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي عليها مبنى النفاق من مخالفة السر العلن ، فالكذب الإخبار على خلاف الواقع ، وحق الأمانة أن تؤدى إلى أهلها ، فالخيانة مخالفة لها ، وإخلاف الوعد ظاهر ؛ ولهذا صرح بـ " أخلف " . فإن قيل : هذا الحديث مشكل من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره ، قلنا : اللام في المنافق إما أن تكون للجنس ، فهو إما [ ص: 127 ] على التشبيه لنفاق العمل الذي لا ينافي الإسلام بنفاق الاعتقاد الذي ينافيه بجامع أن كلا فيه إظهار بخلاف ما أبطن ، أو أن المراد الاعتياد ؛ ولذا قيد هذا بإذا المقتضية للتكرار يعني أن النفاق العملي إذا وقع كثيرا بحيث إنه يصير عادة قد يجر إلى النفاق الحقيقي بخلاف من وقعت له هذه الخصال ، أو بعضها نادرا ، فالحديث محمول على من غلبت عليه هذه الخصال ، وقال البيضاوي : يحتمل أن يكون عاما لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه إيذانا بأنها طلائع النفاق الذي هو أسمج القبائح ؛ لأنه كفر ضموا إليه الاستهزاء والخداع برب الأرباب ، ومسبب الأسباب ، فيعلم من ذلك أنها منافية لحال المسلمين ، فينبغي للمسلم ألا يرتع حولها ، فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ويحتمل أن المراد بالمنافق المنافق العرفي ، وهو من يخالف سره علنه مطلقا ، ويشهد له قوله : ومن كانت فيه خصلة ، وكذا قوله : خالصا ; لأن الخصال التي يتم بها المخالفة بين السر والعلن لا تزيد على هذا . قال النووي : حصل من الحديثين خمس خصال ، وقال في شرح مسلم : إذا عاهد غدر داخل في إذا اؤتمن خان . وباعتبار ذلك يرجع إلى ثلاث بل إلى واحدة هي أقبحها ، وهي الكذب ، قيل : لكن الحق أنها خمسة باعتبار تغايرها عرفا أو تغاير أوصافها ولوازمها ، ولا تنافي بين قوله : ثمة ثلاث ، وهنا أربع ؛ لأن مفهوم العدد ليس بحجة عند الأكثرين ، وعلى مقابله الذي صححه غير واحد فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالوحي بثلاث ، ثم بأربع ، أو معناه الإنذار والتحذير من أن يعتاد هذه الخصال فتفضي به إلى النفاق الخالص ، وإما للعهد إما من منافقي زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإما من منافق خاص شخص بعينه ، أو المراد بالنفاق هو النفاق العملي لا الإيماني ، أو المراد النفاق العرفي ، وهو ما يكون سره خلاف علنه ، واستحسن هذا ؛ لأن النفاق الشرعي وهو الاعتقادي الذي هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام ، وعرفي وهو العملي الذي هو إبطان المعصية وإظهار الطاعة ، فإرادته هنا أولى . وإطلاق النفاق على العملي كإطلاق الكفر على بعض كبائر الذنوب في نحو قوله - عليه الصلاة والسلام - : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) . وأبى الحسن البصري مرة هذا الإطلاق ، ومرة قال به ، فسمى صاحب الكبيرة منافقا ، ويحكى أنه رجع عن الأول لما أرسل له عطاء إذ بلغه عنه ذلك أن إخوة يوسف عليهم الصلاة والسلام وجدت فيهم تلك الثلاثة أفتراهم منافقين ؟ فسر بما نبهه عليه عطاء ، وروي أن مقاتلا قال لابن جبير : إن هذا الحديث أفسد علي معيشتي لأني أظن ألا أسلم من هذه الثلاث أو بعضها ، فضحك وقال : قد أهمني ذلك . فسألت عنه ابن عمر وابن عباس فضحكا وقالا : أهمنا ذلك . فسألنا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال : ( ما لكم وما لهن ) ! أما قولي : إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله علي ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، وأما إذا وعد أخلف فذلك في قوله تعالى : ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ) الآية . وأما إذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة ) الآية ، وأنتم برآء من ذلك . قال ابن حجر : وما ذكر في أولاد يعقوب مبني على القول بأنهم غير أنبياء ، أما على القول بأنهم أنبياء فيتعين تأويل ما صدر منهم بحمله على محامل التجوزات والكنايات التي تقتضي عدم وقوع حقائق ذلك منهم ؛ إذ الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها عن كبائر الذنوب وصغارها ، ولو سهوا على ما هو الحق عند المحققين ، وإن كان الأكثرون على خلافه ، ويؤيد القول بنبوتهم بل يصح به قوله تعالى : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) وهم - أعني الأسباط - أولاد يعقوب ، فالآية مصرحة بوجوب الإيمان بما أنزل إليهم ، ويلزم من الإنزال إليهم نبوتهم كلهم اهـ .

[ ص: 128 ] وفيه نظر ؛ لأن السبط على ما هو المعروف في العرف واللغة ولد الولد ، ففي القاموس : السبط - بالكسر - ولد الولد ، والقبيلة من اليهود ، جمعه أسباط ، وفي النهاية الأسباط في أولاد إسحاق بن إبراهيم بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ، وأحدهم سبط ، فهو واقع على أمة اهـ . ولا يلزم من الإنزال إليهم أن يكونوا كلهم أنبياء ، إذ يمكن أن يكون أحدهم نبيا ، والباقون مأمورون باتباعه كما في قوله تعالى : ( وما أنزل إلينا ) ثم على ثبوت نبوتهم جميعا وعدم تجويز الصغيرة ولو سهوا ينسد باب تأويل ما صدر منهم من العقوق ، وقطع صلة الرحم ، وبيع الحر ، وقولهم : ( أكله الذئب ) ووعدهم بالحفظ بقولهم : ( وإنا له لحافظون ) وإتيانهم عشاء يبكون إظهارا للحزن ، وقولهم : ( ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ) وقولهم : ( اقتلوا يوسف ) وطرحهم إياه في البئر مع أن تأويلها يخالفه أقوال السلف من إلزام عطاء والتزام الحسن . فالصحيح قول الجمهور ، وهو تجويز وقوع الكبائر من الأنبياء سهوا والصغائر عمدا بعد الوحي ، وأما قبل الوحي فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة ، وذهب المعتزلة إلى امتناعها ، ونفت الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده .




الخدمات العلمية