الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
85 - وعن علي رضي الله عنه قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ، ومقعده من الجنة ) . قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ، وندع العمل ؟ قال ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ؟ أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة ، ثم قرأ : (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) الآية ) . متفق عليه .

التالي السابق


85 - ( وعن علي رضي الله عنه ) : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يكنى أبا الحسن ، وأبا تراب ، القرشي ، وهو أول من أسلم من الذكور في أكثر الأقوال ، ومن الصبيان في جميعها . وقد اختلف في سنه يومئذ فقيل : كان له خمس عشرة سنة ، وقيل : ثمان سنين ، وقيل : عشر سنين ، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها غير تبوك فإنه خلفه في أهله ، وفيها قال له : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ) . كان آدم شديد الأدمة ، عظيم العينين ، أقرب إلى القصر من الطول ذا بطن كثير الشعر عريض اللحية أصلع أبيض الرأس ، واللحية ، استخلف يوم قتل عثمان [ ص: 157 ] وهو يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، وضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي بالكوفة صبيحة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة أربعين ، ومات بعد ثلاث ليال من ضربته ، وغسله ابناه الحسن ، والحسين ، وعبد الله بن جعفر ، وصلى عليه الحسن ، ودفن سحرا ، وله من العمر ثلاث وستون سنة ، وكانت خلافته أربع سنين ، وتسعة أشهر وأياما ، روى عنه بنوه الحسن ، والحسين ، ومحمد ، وخلائق من الصحابة ، والتابعين . ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما منكم من أحد ) : من : مزيدة لاستغراق النفي ( إلا وقد كتب مقعده من النار ) : الواو للحال ، والاستثناء مفرغ أي : ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة أي : إلا وقد قدر مقعده من النار ( ومقعده ) : الواو بمعنى ( أو ) بدليل قوله في الحديث : أفلا نتكل ، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ أو كذا حرره السيد جمال الدين أي : موضع قعوده . ( من الجنة ) قال الطيبي : كني عن كونه من أهل الجنة والنار باستقراره فيها ، وظاهر الكلام يقتضي أن يكون لكل أحد مقعد من النار ، ومقعد من الجنة ، وهذا وإن ورد في حديث آخر يعني في عذاب القبر . رواه أنس لكن التفصيل الآتي يأبى حمله على ذلك ، فيجب أن يقال : إن الواو بمعنى أو . قال المظهر : قد ورد هذا الحديث بلفظ الواو في بعض الروايات ، وليس في شرح السنة إلا بلفظ أو ( قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ) : المقدر لنا في الأزل . قيل : الفاء في جواب الشرط أي : إذا كان الأمر كما ذكرت يا رسول الله أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل ( وندع العمل ؟ ) أي : نتركه ؛ لأنه لا فائدة في إتعاب أنفسنا بالأعمال لأن قضاياه لا تتغير ، فلم يرخص عليه السلام في ذلك الاتكال ، وترك الأعمال حيث ( قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) : بل أمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه من العبودية عاجلا ، وتفويض الأمر إليه بحكم الربوبية آجلا ، وأعلمهم بأن هاهنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر : باطن ، وهو حكم الربوبية ، وظاهر ، وهو سمة العبودية ، فأمر بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب ، والرجاء بالظاهر البادي ليستكمل العبد بذلك صفات الإيمان ، ونعوت الإيقان ، ومراتب الإحسان يعني : عليكم بالتزام ما أمرتم ، واجتناب ما نهيتم من التكاليف الشرعية بمقتضى العبودية ، وإياكم والتصرف في الأمور الربوبية ، ولا تجعلوا الأعمال أسبابا للسعادة والشقاوة ، بل أمارات لهما وعلامات ، فكل موفق ، ومهيأ لما خلق له أي : لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر ، والفاء في فكل للسببية ، والتنوين عوض عن المضاف إليه ، والحاصل أن الأمر المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على تدبير الربوبية ، وذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية ، فكل من الخلق ميسر لما دبر له في الغيب فيسوقه العمل إلى ما كتب له في الأزل من سعادة ، أو شقاوة ، فمعنى العمل التعرض للثواب والعقاب ، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ، ثم فصل - عليه الصلاة والسلام - ما أجمله بقوله : ( أما من كان ) أي : في علم الله ، أو كتابه ، أو في آخر أمره وخاتمة عمله ( من أهل السعادة ) أي : الإيمان في الدنيا ، والجنة في العقبى ( فسييسر ) أي : يسهل ، ويوفق ، ويهيأ ( لعمل السعادة ) أي : لعمل أهلها ، ( وأما من كان من أهل الشقاوة ) : وهو ضد السعادة . وفي المصابيح بلفظ الشقوة بكسر الشين ، وهو مصدر بمعنى الشقاوة ( فسييسر لعمل الشقاوة ) أي : أهلها من الكفرة ، والفجرة ( ثم قرأ ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا ، أو اعتضادا ( فأما من أعطى ) أي : حق الله من المال ، أو الامتثال ( واتقى ) أي : خاف مخالفته ، أو عقوبته ، واجتنب معصيته ( وصدق بالحسنى ) أي : بكلمة لا إله إلا الله [ ص: 158 ] وأخر في الذكر ترقيا ، أو إشارة إلى حسن الخاتمة ( الآية ) " لا يخفى أن الحسنى رأس آية ، فالمراد بعدها من الآيات المتعلقة بها المناسبة لها ، وهي ( فسنيسره لليسرى ) : قال البيضاوي أي : فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر ، وراحة كدخول الجنة ، ( وأما من بخل ) أي : مما أمر به ( واستغنى ) : بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى ، وكذب بالحسنى ) أي : بكلمة التوحيد ( فسنيسره للعسرى ) أي : للخلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ، وفي الكشاف سمى طريق الخير باليسر ؛ لأن عاقبته اليسر ، وطريق الشر بالعسرى ؛ لأن عاقبته العسر ، وفي المعالم فسنيسره أي : نهيئه في الدنيا لليسرى للخلة اليسرى ، وهو العمل بما يرضاه ، وأما من بخل بالنفقة في الخير ، واستغنى عن ثواب الله تعالى ، ويرغب فيه فسنيسره للعسرى . أي : سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضي الله ، ويستوجب به النار . قال مقاتل : يعسر عليه بأن يأتي خيرا اهـ .

ولا يخفى أن ما في البيضاوي غير ملائم لمعنى الحديث ؛ لانعكاسه بالمعنى المقصود منه ، فالمدار على ما في المعالم ، والكشاف ، لكن السين في الآية تحمل على مجرد التأكيد لا على الاستقبال ، والله أعلم بالحال . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية