الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1265 - وعن أبي أيوب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوتر حق على كل مسلم ، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل " . رواه أبو داود ، والنسائي وابن ماجه .

التالي السابق


1265 - ( وعن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوتر حق على كل مسلم " ) : قال الطيبي : الحق يجيء بمعنى الثبوت والوجوب ، فذهب أبو حنيفة إلى الثاني ، والشافعي إلى الأول ، أي : ثابت في الشرع والسنة ، وفيه نوع تأكيد ، قال ابن حجر : أخذ منه ومن الخبر الصحيح أيضا : " أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر " [ ورجح ] أبو حنيفة وجوب الوتر ، واعترضه ابن المنذر وغيره بأنه لم يوافقه على وجوبه أحد . قلت : الموافقة ليست شرطا في المسألة الاجتهادية ، قال ابن حجر : وأما خبر : " إن الله زادكم صلاة فحافظوا عليها وهي الوتر " فضعيف . قلت : على تقدير صحته يكون مقويا للمقصود المستفاد من الحديث الصحيح ، فلا يضرنا ضعفه مع الاحتمال الغالب أن الضعف إنما نشأ في رجال السند بعد المجتهد . ( " فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل " ) : بأن يصلي ركعتين ثم يصلي ثلاثا ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ولا يخالفه أحد ، ويحتمل أن لا يجلس إلا في آخرهن وهو قول للشافعي . ( " ومن أحب أن يوتر بثلاث " ) ، أي : بتسليمة كما عليه أئمتنا ولا خلاف في جوازه عند الكل ، وإنما الخلاف عندهم في التفضيل ، قال النووي : والخلاف في التفضيل بين الوصل والفصل ، إنما هو في الثلاث ، أما ما زاد عليها فالفصل فيه أفضل قطعا ، أي : وإن نقص عدده عن الموصول ، فيكون الأول أفضل من حيث زيادة الفصل ، والثاني أفضل من حيث زيادة العدد ، أو بتسليمتين على مقتضى مذهب الشافعي ( " فليفعل " ) : وهو بظاهره ينافي ما ذكره ابن حجر من أنه صح حديث : " لا توتروا بثلاث وأوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب " فالجمع على تقدير صحته أن النهي للتنزيه على الاقتصار بثلاث المتضمن لترك صلاة الليل المقتضي للاكتفاء بمجرد الواجب كصلاة المغرب والله أعلم . ( " ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل " ) .

قال النووي : فيه دليل على أن أقل الوتر ركعة ، وأن الركعة الواحدة صحيحة ، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يصح الإيتار بواحدة ، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة ، والأحاديث الصحيحة ترد عليه . اهـ .

قال الإمام ابن الهمام : التمسك في وجوب الوتر بما في أبي داود ، عن أبي المنيب عبيد الله العتكي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني ، الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني ، الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني " . ورواه الحاكم وصححه ، وقال أبو المنيب : ثقة ، ووثقه ابن معين أيضا ، [ ص: 946 ] وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : صالح الحديث ، وأنكر على البخاري إدخاله في الضعفاء ، وتكلم فيه النسائي وابن حبان ، وقال ابن عدي : لا بأس به ، فالحديث حسن .

وروى البزار مرفوعا : " الوتر واجب على كل مسلم " . فإن قيل : الأمر قد يكون للندب والحق هو الثابت ، وكذا الواجب لغة ويجب الحمل عليه دفعا للمعارضة ولقيام القرينة الدالة عليه ، أما المعارضة فما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر ، أنه عليه الصلاة والسلام كان يوتر على البعير ، وما أخرجاه أيضا أنه عليه الصلاة والسلام بعث معاذا إلى اليمن وقال له فيما قال : " فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة " ، قال ابن حبان وكان بعثه قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بأيام يسيرة ، وفي موطأ مالك أنه عليه الصلاة والسلام توفي قبل أن يقدم معاذ من اليمن ، وما أخرجه ابن حبان أنه عليه الصلاة والسلام قام بهم في رمضان ، فصلى ثماني ركعات وأوتر ، ثم انتظروه من القابلة ، فلم يخرج إليهم فسألوه فقال : " خشيت أن يكتب عليكم الوتر " ، هذه أحسن ما يعارض لهم به ، ولهم غيرها مما لم يسلم من ضعف أو عدم تمام دلالة .

وأما القرينة الصارفة للوجوب إلى اللغوي فما في السنن إلا الترمذي قال - عليه السلام - : " الوتر حق واجب على كل مسلم ، فمن أحب أن يوتر بخمس فليوتر ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر " ورواه ابن حبان والحاكم وقال : على شرطهما ، وجه القرينة أنه حكم بالوجوب ، ثم خير فيه بين خصال .

إحداها : أن يوتر بخمس ، فلو كان واجبا لكان كل خصلة يخبر فيها تقع واجبة على ما عرف في الواجب المخير ، والإجماع على عدم وجوب الخمس ، فلزم صرفه إلى ما قلنا . والجواب عن الأول ، أي من أنواع المعارضة أنه واقعة حال لا عموم لها ، فيجوز كون ذلك لعذر ، والاتفاق على أن الفرض يصلى على الدابة لعذر الطين والمطر ونحوه ، أو كان قبل وجوبه ; لأن وجوبه لم يقارن وجوب الخمس بل متأخر ، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام كان ينزل للوتر . وروى الطحاوي عن حنظلة بن سفيان ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض ، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . فدل أن وتره ذلك كان إما حالة عدم وجوبه به أو للعذر . وعن الثاني : أنه لم لا يجوز أن يكون الوجوب بعد سفره ، وعن الثالث : كالأول في أنه يجوز كونه قبل وجوبه ، أو المراد المجموع من صلاة الليل المختتمة بوتر ، ونحن نقول بعدم وجوبه ، ويدل على ذلك ما صرح به في رواية البجلي لهذا الحديث من قوله : " خشيت أن يكتب عليكم صلاة الليل " .

وعن القرينة المدعاة أن ذلك كان قبل أن يستقر أمر الوتر ، فيجوز كونه أولا كان كذلك ، وفي مسلم عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها ، فدل أن الوتر أولا كان خمسة ، وأجمعنا على أنه يجلس على رأس كل ركعتين وهو يفيد خلافه ، ويدل على ذلك أيضا ما في الدارقطني أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا توتر بثلاث أوتر بخمس أو سبع " والإيتار بثلاث جائز إجماعا ، فعلم أن هذا وما شاكله كان قبل أن يستقر أمر الوتر ، وكيف يحمل على اللغوي وهو محفوف بما يؤكد مقتضاه من الوجوب ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام " فمن لم يوتر فليس مني " مؤكدا بالتكرار ثلاثا على ما تقدم . تم كلامه .

وأخرج الطحاوي بأسانيد متعددة عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ، ومن شاء أوتر بثلاث ، ومن شاء أوتر بواحدة " ثم قال : فلولا الإجماع على خلاف هذا لكان جائزا أن يقال : من أوتر يخير في وتره كما جاء في هذا الخبر ، فدل الإجماع على نسخ هذا . ( رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ) : قال النووي : إسناده صحيح ، وأخرجه الحاكم وقال : على شرط البخاري ومسلم ، ونقله ميرك ، قال ابن حجر وسند أبي داود صحيح ، وصححه ابن حبان والحاكم ، وأقرهما النووي في مجموعه ، فقول الذهبي : الأشبه أنه موقوف . فيه نظر ، وقد رجح ابن القطان الرفع ، وقال : لا حفظ من لم يحفظه .

قلت : حيث اختلف في صحة الحديث لا يصلح أن يستدل به على جواز الإيتار بواحدة ، وقد تقدم هذا البحث ومر عن ابن الصلاح أنه لم يحفظ ذلك .

[ ص: 947 ]



الخدمات العلمية