الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
181 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم رواه أبو داود .

التالي السابق


181 - ( وعن أنس ) رضي الله عنه ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ) : فيه إشارة إلى التكرار والاستمرار ( لا تشددوا على أنفسكم ) أي : بالأعمال الشاقة كصوم الدهر وإحياء الليل كله واعتزال النساء لئلا تضعفوا عن العبادة وأداء الحقوق والفرائض ( فيشدد الله عليكم ) : بالنصب جواب النهي أي : يفرضها عليكم فتقعوا في الشدة ، أو بأن يفوت عليكم بعض ما وجب عليكم بسبب ضعفكم من تحمل المشاق كذا قاله الشراح ، والظاهر أن المعنى : لا تشددوا على أنفسكم ، بإيجاب العبادات الشاقة على سبيل النذر أو اليمين ، فيشدد الله عليكم فيوجب عليكم بإيجابكم على أنفسكم ، فتضعفوا عن القيام بحقه وتملوا وتكسلوا وتتركوا العمل فتقعوا في عذاب الله تعالى ، وهذا المعنى هو الملائم للتعليل بقوله ( فإن قوما ) أي : من بني إسرائيل ( شددوا على أنفسهم ) : بالعبادات الشاقة ، والرياضات الصعبة ، والمجاهدات التامة ، فشدد الله عليهم بإتمامها والقيام بحقوقها ، وقيل : شددوا حين أمروا بذبح بقرة فسألوه عن لونها وسنها وغير ذلك من صفاتها . ( فشدد الله عليهم ) : بأن أمرهم بذبح بقرة على صفة ، لم توجد على تلك الصفة إلا بقرة واحدة لم يبعها صاحبها إلا بملء جلدها ذهبا ، ويؤيد المعنى الأول ما سيأتي من قوله ( فتلك ) : الفاء للتعقيب ، وتلك إشارة إلى ما في الذهن من تصور جماعة باقية من أولئك المشددين بقيت في الصوامع يفسرها قوله ( بقاياهم ) أي : بقايا قوم شددوا على أنفسهم ( في الصوامع ) : جمع صومعة ، وهي موضع عبادة الرهبان من النصارى . قيل : هو بناء صغير على شكل دائرة ( والديار ) : جمع الدير ، وهو الكنيسة وهي معبد اليهود ، قيل : وهو بناء وسيع فيه محل العبادة ، وباقيه لنحو نزول المارة وإيواء الغريب ( رهبانية ) : نصب بفعل يفسره ما بعده ، أي : ابتدعوا رهبانية ( ابتدعوها ) يقال : ابتدع إذا أتى بشيء بديع أي : جديد لم يفعله قبله أحد ، والرهبانية بالفتح الخصلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف ، فعلان من رهب رهبة أي خاف ، وبالضم نسبة إلى الرهبان جمع راهب ، وفي الآية قرئت بالضم شاذا ، وقيل : الرهبة الخوف والمبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس ، ويطلق على عبادة الرهبان ، وهو جمع الراهب أي : عابد النصارى وهي ما يفعلون من تلقاء أنفسهم ( ما كتبناها ) أي : ما فرضنا تلك الرهبانية ( عليهم ) : من ترك التلذذ بالأطعمة وترك التزوج والاعتزال عن الناس ، والتوطن في رءوس الجبال والمواضع البعيدة عن العمران ، والاقتصار على هذا يدل على أن الاستثناء فيما بعده وهو قوله تعالى : إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . قال تعالى فما رعوها حق رعايتها أي : لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وضيعوا وكفروا بدين عيسى ، فتهودوا وتنصروا ودخلوا في دين ملوكهم وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، حتى أدركوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمنوا به ، فذلك قوله عز وجل : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون كذا في المعالم ( رواه أبو داود ) .

[ ص: 267 ]



الخدمات العلمية