الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4037 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصلح قبلتان في أرض واحدة ، وليس على المسلم جزية . رواه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود .

التالي السابق


4037 - ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصلح قبلتان " ) أي : أهلهما يعني دينين ( " في أرض واحدة ، وليس على المسلم جزية " ) : قال التوربشتي أي : لا يستقيم دينان بأرض على سبيل المظاهرة والمعادلة فأما المسلم فليس له أن يختار الإقامة بين ظهراني قوم كفار ; لأن المسلم إذا صنع ذلك فقد أحل نفسه فيهم محل الذمي فينا ، وليس له أن يجر إلى نفسه الصغار ويتوسم بسمة من ضرب عليه الجزية وأنى له الصغار والذلة ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، وأما الذي يخالف دينه دين الإسلام ، فلا يمكن من الإقامة في بلاد الإسلام إلا ببذل الجزية ، ثم لا يؤذن له في الإشاعة بدينه ، ووجه التناسب بين الفصلين أن الذمي إنما أقر على ما هو عليه ببذل الجزية ، والذمي عليه الجزية وليس على المسلم جزية ، فصار ذلك رافعا لإحدى القبلتين واضعا لإحداهما . وذهب بعضهم إلى أن معنى : وليس على المسلم جزية الخراج الذي وضع على الأراضي التي تركت في أيدي أهل الذمة ، والأكثرون على أن المراد منه أن من أسلم من أهل الذمة قبل أداء ما وجب عليه من الجزية ، فإنه لا يطالب به ; لأنه مسلم ، وليس على مسلم جزية ، وهذا قول سديد لو صح لنا وجه التناسب بين الفصلين اهـ .

وفيه أن وجه التناسب ليس بشرط ، إذ يحتمل أن الراوي سمع الفصلين في محلين ، ثم جمع بينهما في روايته ، وأظهر الحكمين ، ويؤيده ما ذكره في الجامع الصغير مفردا قوله : ليس على مسلم جزية . وقال : رواه أحمد وأبو داود مع احتمال أنه قطعه عن الحديث الطويل والله أعلم . وقيل : هذا الحديث إشارة إلى إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب . قال ابن الملك أي : لا يجوز أن يسكن المسلم والكافر في بلدة واحدة ، وهذا مختص بجزيرة العرب ، وأما قوله : وليس على مسلم جزية . فقيل : المراد بها الخراج الذي وضع على أراضي بلد فتح صلحا على أن يكون أراضيه لأهلها بخراج مضروب عليهم ، فإذا أسلموا سقط الخراج عن أراضيهم ، وتسقط الجزية عن رءوسهم حتى يجوز لهم بيعها بخلاف ما لو صولحوا على أن تكون الأراضي لأهل الإسلام ، وهم يسكنون فيها بخراج وضع عليهم ، أو فتح عنوة ، وأسكن أهل الذمة بخراج ، أو دونه ، فإنه لا يسقط بإسلامهم ولا بالموت . ( رواه أحمد والترمذي ، وأبو داود ) .

قال ابن الهمام : من أسلم وعليه جزية بأن أسلم بعد كمال السنة سقطت عنه ، وكذا لو أسلم في أثنائها خلافا للشافعي فيهما ، ولنا ما أخرجه أبو داود والترمذي ، عن جرير ، عن قابوس بن أبو ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على مسلم جزية " . قال أبو داود : وسئل سفيان الثوري عن هذا ؟ فقال : يعني إذا أسلم فلا جزية عليه ، وباللفظ الذي فسره به سفيان الثوري ، رواه الطبراني في معجمه الأوسط ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أسلم فلا جزية عليه " . وضعف ابن القطان قابوسا ، وليس قابوس في مسند الطبراني ، فهذا بعمومه يوجب سقوط ما كان استحق عليه قبل إسلامه ، بل هو المراد بخصوصه ; لأنه موضع الفائدة إذ عدم الجزية على المسلم ابتداء من ضروريات الدين ، فالإخبار به من جهة الفائدة ليس كالإخبار بسقوطها في حال البقاء ، وبهذا الحديث ونحوه أجمع المسلمون على سقوط الجزية بالإسلام ، فلا يرد طلب الفرق بين الجزية وبين الاسترقاق إذ كل منهما عقوبة على الكفر ، ثم لا يرتفع الاسترقاق بالإسلام ، وكذا خراج الأرض ، وترتفع الجزية ; لأن كلا منهما محل الإجماع ، فإن عقلت حكمته فذاك ، وإلا وجب الاتباع على أن الفرق بين خراج الأرض والجزية واضح ؛ إذ لا إذلال في خراج الأرض ; لأنه مؤنة الأرض كي تبقى في أيدينا ، والمسلم ممن يسعى في بقائها للمسلمين بخلاف الجزية ; لأنها ذل ظاهر وشعار ، وأما الاسترقاق فلأن إسلامه بعد تعلق ملك شخص معين ، بل استحقاق للعموم ، والحق الخاص فضلا عن العام ليس كالملك الخاص .

[ ص: 2609 ]



الخدمات العلمية