الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4840 - وعن علي بن الحسين - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " . رواه مالك ، وأحمد .

التالي السابق


4840 - ( وعن علي بن الحسين ) ، أي : ابن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وهو الإمام زين العابدين ، وقد سبق بعض مناقبه من جملة محاسن مراتبه ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء ) أي : من جملة محاسن إسلام الشخص وكمال إيمانه ( تركه ما لا يعنيه ) ، أي : ما لا يهمه ولا يليق به قولا وفعلا ونظرا

[ ص: 3041 ] وفكرا ، فحسن الإسلام عبارة عن كماله ، وهو أن تستقيم نفسه في الإذعان لأوامر الله تعالى ونواهيه ، والاستسلام لأحكامه على وفق قضائه وقدره فيه ، وهو علامة شرح الصدر بنور الرب ، ونزول السكينة على القلب ، وحقيقة ما لا يعنيه ما لا يحتاج إليه في ضرورة دينه ودنياه ، ولا ينفعه في مرضاة مولاه بأن يكون عيشه بدونه ممكنا ، وهو في استقامة حاله بغيره متمكنا ، وذلك يشمل الأفعال الزائدة والأقوال الفاضلة ، فينبغي للمرء أن يشتغل بالأمور التي يكون بها صلاحه في نفسه في أمر زاده بإصلاح طرفي معاشه ومعاده ، وبالسعي في الكمالات العلمية والفضائل العملية التي هي وسيلة إلى نيل السعادات الأبدية ، والفوز بالنعم السرمدية ، ولعل الحديث مقتبس من قوله تعالى : والذين هم عن اللغو معرضون

قال الغزالي : وحد ما لا يعنيك أن تتكلم بكل ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال ولا مآل ، ومثاله : أن تجلس مع قوم فتحكي معهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار ، وما وقع لك من الوقائع ، وما استحسنته من الأطعمة والثياب ، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم ، فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تتضرر ، وإذا بالغت في الاجتهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان ، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة ، ولا اغتياب لشخص ، ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى ، فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك ، ومحاسب على عمل لسانك إذ تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ; لأنك لو صرفت زمان الكلام في الذكر والفكر ربما ينفتح لك من نفحات رحمة الله تعالى ما يعظم جدواه ، ولو سبحت الله بني لك بهما قصر في الجنة ، ومن قدر على أن يأخذ كنزا من الكنوز فأخذ بدله بدرة لا ينتفع بها كان خاسرا خسرانا مبينا ، وهذا على فرض السلامة من الوقوع في كلام المعصية ، وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها ؟ وذكر أن بعض العارفين مر على غرفة بنيت فقال : مذ كم بنيت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه وقال : يا نفسي المغرورة تسألين عما لا يعنيك وعاقبها بصوم سنة . اهـ .

وقد ورد في الحديث : ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها ، على ما رواه الطبراني عن معاذ مرفوعا . فطوبى لمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب . قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون قال الأوزاعي : كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد ، فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه ، وقيل : ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة ، وكان إذا أصبح وضع قرطاسا نقيا وقلما ، فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء ، هذا وعن بعضهم " من " في قوله : من حسن إسلام المرء تبعيضية ، ويجوز أن تكون بيانية . اهـ .

وبيانه : أن تركه ما لا يعنيه هو حسن إسلام المرء وكماله فيه ، وتقدم الخبر لكون التركيب من باب : على التمرة مثلها زبدا . قال الطيبي : وعلى أن تكون تبعيضية إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " . الحديث ، بعد الإيمان والإسلام ، وأنت تعلم أن التحلية مسبوقة بالتخلية ، فالترك بعض من الإحسان ، فيكون إشارة إلى الانسلاخ عما يشغله عن الله ، فإذا أخذ السالك في السلوك تجرد بحسب أحواله ومقاماته شيئا فشيئا ، مما لا يعنيه إلى أن يتجرد عن جميع أوصافه ، ويتوجه بكليته إلى الله سبحانه ، وإليه يلمح قوله تعالى : بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ، وقول إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه أسلم قال : أسلمت لرب العالمين قال النووي : هذا أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام . قال أبو داود : وهي أربعة ، الأول حديث نعمان بن بشير : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن " ، الثاني : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " .

[ ص: 3042 ] الثالث : " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . الرابع : " الأعمال بالنيات " وقيل بدل الثالث : " ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس " . وأنشد الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في معناه :

عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية

اتق الشبهات وازهد ودع
ما ليس يعنيك واعملن بنية



قلت : مدار الأربعة السنية على تصحيح النية ، فإنه إذا عمل بالنية المرتبطة بحسن الطوية يورث له اتقاء الشبهات أكلا ، وترك ما لا يعنيه قولا وفعلا ، ويترتب عليها الزهد في الدنيا والزهد فيما في أيدي الناس بالأولى ، فيحب المؤمنين ويحبونه لله تعالى ، فنية المؤمن خير من عمله ، كما ورد في الحديث ، وقد جعلت في شرحه رسالة تعين مبانيه وتبين معانيه . ( رواه مالك وأحمد ) أي : عن علي بن الحسين .




الخدمات العلمية