الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4895 - وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : في يوم حنين كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته - يعني بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غشيه المشركون ، نزل فجعل يقول : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " قال : فما رئي من الناس يومئذ أشد منه . متفق عليه .

التالي السابق


4895 - ( وعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - ) : صحابيان جليلان ( قال : في يوم حنين ) : ظرف مقدم ، والجملة هي المقول ( كان أبو سفيان بن الحارث ) أي : ابن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أخاه من الرضاعة أرضعتهما حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية ، وكان من الشعراء المطبوعين ، وكان سبق له هجاء في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابه حسان بن ثابت ، ثم أسلم فحسن إسلامه ، ويقال : إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياء منه ، وكان إسلامه عام الفتح ، وقال له علي كرم الله وجهه : ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل وجهه ، فقل له ما قال إخوة يوسف : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ، ففعل أبو سفيان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، وقبل منه وأسلم ، وكان سبب موته أنه حج ، فلما حلق الحلاق رأسه قطع أثلوثا في رأسه ، فلم يزل مريضا منه حتى مات بعد مقدمه من الحج بالمدينة سنة عشرين ، ودفن في دار عقيل بن أبي طالب ، وصلى عليه عمر - رضي الله عنه - والحاصل أنه يوم حنين ( كان آخذا بعنان بغلته ، يعني ) : هو كلام بعض الرواة ، أي : يريد البراء بقوله : بغلته ( بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) احترازا من رجع الضمير إلى أبي سفيان ( فلما غشيه ) : بفتح فكسر ( المشركون ) أي : أتوه من جميع جوانبه ( نزل ) أي : عن بغلته ( فجعل يقول ) : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " .

بسكون الباء فيهما على الصواب ، وقيل : بفتحها في الأول وكسرها في الثاني ، وقد تقدم الكلام عليه من جهة أنه شعر أم لا . قال التوربشتي : ليس لأحد أن يحمل هذا على المفاخرة ، والشيخ - يعني صاحب المصابيح - لم يرد في إيراد هذا الحديث في هذا الباب ، ولا شك أنه تبع بعض أصحاب الحديث في مصنفاتهم و لم يصيبوا

[ ص: 3070 ] أولئك أيضا ، وقد نفى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه أن يذكر الفضائل التي خصه الله بها فخرا ، بل شكرا لأنعمه فقال : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " الحديث . وذم العصبية في غير موضع ، فأنى لأحد أن يعد هذا الحديث من أحد القبيلين ؟ وكيف يجوز على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتخر بمشرك ، وكان ينهى الناس أن يفتخروا بآبائهم ؟ وإنما وجه ذلك أن تقول : تكلم بذلك على سبيل التعريف ، فإن الله تعالى قد أرى قوما قبل ميلاده ما قد كان ، علما لنبوته ودليلا على ظهور أمره ، وأظهر علم ذلك على الكهنة حتى شهد به غير واحد منهم ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرهم بذلك ، وعرفهم أنه ابن عبد المطلب الذي روي فيه ما روي ، وذكر فيه ما ذكر .

قال الطيبي : الجواب ما ذكره في شرح السنة من قوله الافتخار والاعتزاز المنهي عنه ما كان في غير جهاد الكفار ، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها . وروي أن عليا - رضي الله عنه - بارز مرحبا يوم خيبر فقال :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

. قلت : حاصله يرجع إلى تأويل التوربشتي أنه للتعريف لا للافتخار ، ثم قال الطيبي : وكأنه - صلى الله عليه وسلم - يري الكفار شدة جأشه وشجاعته مع كونه مؤيدا من عند الله تعالى حين قل شوكة المسلمين ، وهو السكينة التي أنزلها الله عليه يوم حنين وعلى المسلمين ، وتلخيص الجواب : أن المفاخرة نوعان : مذمومة ومحمودة ، فالمذموم منها : ما كان عليها الجاهلية من الفخر بالآباء والأنساب للسمعة والرياء ، والمحمود منها : ما ضم مع النسب الحسب في الدين لا رياء ، بل إظهارا لأنعمه تعالى عليه ، فقوله : " لا فخرا " احترازا عن المذموم منها ، وكفى به شاهدا قوله في الحديث السابق : " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " . وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه عباس وكأنه سمع شيئا ، فقام على المنبر فقال : " من أنا ؟ " فقالوا : أنت رسول الله . قال : " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم فرقتين ، فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل ، فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا " .

قلت : وهذا كله تعريف لنسبه الشريف المنضم بحسبه المنيف ، وليس فيه الافتخار بآبائه الكفار لما سيأتي في أول الفصل الثاني ، مع أنه لو أراد الافتخار لافتخر بأجداده الأبرار ، وقال : أنا ابن إسماعيل أو إبراهيم عليهما السلام ، وقد قال في الإحياء : كان افتخاره - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وبقربه لا بكونه مقدما على ولد آدم ، كما أن المقبول عند الملك قبولا عظيما إنما يفتخر بقبوله إياه ، وبه يفرح لا بتقدمه على بعض رعاياه .

( قال ) أي : الراوي ( فما رئي ) : بصيغة المجهول ، أي : ما عرف ( من الناس ) أي : أحد منهم ( يومئذ أشد منه ) أي : أقوى وأشجع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يدل عليه اختياره البغلة التي لا تصلح للعزة بالمرة ، ثم زاد عليه بأنه نزل منها ، وعرف الناس به بإظهار نسبه وحسبه المتضمن لكمال التعريف ، المنافي عادة لمقام التخويف ، وما ذاك إلا لقوة قلبه ، وتوكله على ربه ، واعتماده على عصمته بمقتضى وعده ; حيث قال تعالى : والله يعصمك من الناس وبموجب حكمه ; حيث قال : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية