مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز اقتناؤه إلا لصاحب صيد أو حرث أو ماشية أو ما كان في معناهم " .
قال الماوردي : وهذا كما قال . لا يجوز إلا أن يكون منتفعا به فيجوز اقتناؤه . وقال اقتناء الكلب أبو حنيفة : يجوز اقتناؤه بكل حال ، وإن لم يكن منتفعا به : استدلالا بأن كل حيوان جاز اقتناؤه إذا كان منتفعا به جاز اقتناء جميع جنسه ، وإن كان غير منتفع به كالبغال والحمير طردا والخنازير عكسا .
ودليلنا : رواية الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " . من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاريا نقص من عمله كل يوم قيراطان
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراطان
وروي عن ابن عمر أنه قال حين ذكر أبو هريرة الزرع في حديثه : إن لأبي هريرة زرعا .
فجعل عيسى بن أبان هذا القول من ابن عمر قد حافى أبي هريرة وطعنا عليه .
وذكر أن عائشة كانت تقول ألا تسمعون إلى هذا الرجل - تعني أبا هريرة - يروي عامة نهاره ولقد كان السامع يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما لو أراد أن يعده لعده وأحصاه .
وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال : لقد كان يؤخذ بروايات أبي هريرة ويترك ، فأوهى بهذه الحكايات أحاديث أبي هريرة ، ومنع من الاحتجاج عليه بها ، ورام لنصرة أبي حنيفة أن لا يكون اقتناء الكلب مخصوصا .
وهذا فعل من عاند صحابة نبيه حتى سبهم ظنا وجعل لديهم غدرا ، ولو سلم من زلل الهوى ، وميل العباد ، وسمع فيهم قول الله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران 110 ] لوضح له ما لا يجد عذرا معه ، ولعلم أن أبا هريرة من المكثرين سماعا وحفظا ، والمقبولين رواية ونقلا ، لقلة شغله وكثرة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال : لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق بالأسواق ولا غرس ودي ، وكنت امرأ فقيرا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم فأحفظ عنه ما لا يحفظونه . ولكثرة ملازمته ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة زر غبا تزدد حبا " . وروي أن [ ص: 378 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بسط ثوباه فأحدثه بأحاديث لا ينساها " فبسطت ثوبي فحدثني بأحاديث فهمت أطرافها فما نسيت بعد ذلك كلما سمعت منه .
وقد روي أن عثمان رضي الله عنه أثنى على أبي هريرة وقال : حفظ الله عليك كما حفظت علينا سنن نبينا صلى الله عليه وسلم .
وأما قول ابن عمر : إن لأبي هريرة زرعا ، فليس ذلك منه قدحا ، وإنما له أحد جوابين :
أحدهما : أن له زرعا فحفظ ذكر الزرع ، وليس لابن عمر زرع .
والثاني : أن له زرعا ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم في الإذن في كلب الزرع . وأما إنكار عائشة عليه الكثرة فمعناه : أنها أنكرت كثرة روايته لا أنها نسبته إلى التخوض والكذب . كما روي عن عمر أنه قال لأبي هريرة : أقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يتقدم إلى أصحابه فيقول لهم : أقلوا وأنا شريككم .
وأما قول إبراهيم لقد كان يؤخذ بروايات أبي هريرة . فنقول : ليس له محصول : لأن أبا هريرة إن كان موثوقا به وجب قبول جميع رواياته ، وإن كان غير موثوق به لم يجز قبول شيء من رواياته ، فأما قبول بعضها وترك بعضها فلا وجه له .
ثم ليس هذا بمانع من ظهور الحجة عليهم في مسألتنا : لأن حديث أبي هريرة لو عدلنا عن الاحتجاج به لكان حديث ابن عمر كافيا في تحريم اقتناء الكلب إلا أن يكون منتفعا به .
فأما قوله عليه السلام : " فيهما عبارة عن جزأين من عمله . " نقص من أجره كل يوم قيراطان
واختلفوا : هل المراد به من عمله الماضي أو المستقبل ؟ فقال بعضهم : من ماضي عمله ، وقال آخرون : من مستقبل عمله . ثم اختلفوا بعد ذلك في أي عمل يذهب على وجهين :
أحدهما : أن جزءا من عمل الليل ، وجزءا من عمل النهار .
والثاني : أن جزءا من عمل الفرض ، وجزءا من عمل النفل .
فصل : فإذا تقرر هذا فالكلاب ضربان : منتفع به ، وغير منتفع به ، فما كان غير منتفع به حرم اقتناؤه لما ذكرنا ولقوله عليه السلام : " " . إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة
[ ص: 379 ] ثم إن كان ما لا ينتفع به عقورا مؤذيا قتل ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " . الكلاب أمة فاقتلوا منها كل أسود بهيم
وروي المدينة أمر بقتل الكلاب . قال : فكان رجل يكنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل أبا محمد يطوف عليها وبيده الحربة فيقتلها .
فأما ما كان غير عقور ولا مؤذ فلا يجوز قتله : لقوله صلى الله عليه وسلم : " " . في كل كبد حرى أجر
وأما المنتفع به فقد جاءت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالانتفاع به في ثلاثة أشياء : في الصيد والحرث والماشية . فأما كلب الصيد : فهو ما كان معلما يصاد به ، فاقتناؤه لمن يصيد به مباح : لأن من الصيد ما لا يصيده جارح غير الكلب ، كالثعالب والأرانب فكانت الحاجة داعية إلى اقتنائه .
فأما كلب الحرث : فهو كلب أصحاب الزروع : لأنه يحفظ زروعهم من الوحش لا سيما في الليل ، مع قلة نوم الكلب وسرعة تيقظه .
ولا يقوم غيره مقامه ، فدعت حاجة أصحاب الزروع إلى اقتنائه ، وفي معنى أصحاب الزروع أصحاب النخل والشجر والكرم .
وأما كلب الماشية : فهو الكلب الذي يطوف على الماشية إذا رعت فيحفظها من صغار السباع ، فدعت حاجة الرعاة إليه فجاز لهم اقتناؤه ، وفي معنى أصحاب المواشي أصحاب الخيل والبغال والحمير .
فأما البوادي وسكان الخيام في الفلوات فيجوز لهم اقتناء الكلاب حول بيوتهم لتحرسهم من الطراق والوحش ، فإن للكلاب عواء عند رؤية من لم يألفوه ينتبه به أربابها على الاستيقاظ وحراسة البيوت . وقد جاء في بعض الروايات إلا كلب ماشية أو ضاريا أو أهل بيت مفرد ، يعني البيوت المفرقة في الصحاري .
وفي معنى أصحاب الخيام من البوادي أهل الحصون والبيوت المفردة في أطراف الرساتيق ، وهكذا أهل القوافل والرفاق .
وروي أن أنس بن مالك حج ومعه كلب ، فقيل له : تحج ومعك كلب . فقال : يحفظ علينا ثيابنا .
فأما ففيه لأصحابنا وجهان : اتخاذ الكلاب لحراسة الدور والمنازل في المدن والقرى
[ ص: 380 ] أحدهما : وهو قول أبي إسحاق ، جواز لما فيه من التيقظ والعواء على من أنكر ، فصار في معنى ما ورد الاستثناء فيه . اتخاذه لحراسة البيوت
والوجه الثاني : أنه لا يجوز اتخاذه لحراسة الدور والبيوت في المدن : لأنه قد يستغنى بالدروب والحراس فيها عن الكلاب : ولأن الكلاب لا تغني في المنازل ما تغني في الزرع والمواشي ، لأن حفظ المنازل من الناس ، والكلب ربما احتال الإنسان عليه بلقمة يطعمه حتى يألفه فلا ينكره إذا ورد للسرقة والتلصص ، والزروع والمواشي تحفظ من الوحش والسباع فلا يتم فيها حيلة في ألف الكلب لها فافترق المعنى فيهما .
وأما ففي جوازه وجهان : اقتناء جرو الكلاب وصغارها لتعلم الصيد أو حفظ الزروع والمواشي
أحدهما : لا يجوز : لأنها في هذه الحالة غير منتفع بها .
والثاني : يجوز اقتناؤها للتعليم : لأن تعليمها منفعة ، ولأنه لا يمكن الاصطياد بها إلا بعد التعليم ، فلو منع من تعليمها لمنع من الصيد بها .
وأما ففي جوازه وجهان : ما انتفع به من كلاب الصيد والحرث والماشية إذا اقتناها من لا ينتفع بها ممن ليس له صيد ولا حرث ولا ماشية
أحدهما : يجوز اعتبارا لها لما فيها من المنفعة .
والثاني : لا يجوز اعتبارا بأربابها ، ولأنه ليس لهم فيها منفعة .
وهكذا لو اتخذ صاحب الحرث كلب ماشية ، أو اتخذ صاحب الماشية كلب حرث كان على هذين الوجهين .