الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الثامنة عشرة

                        في بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله عليه الصلاة والسلام : وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله .

                        وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق ، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها ، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء ، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء ، فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه ، وأشرب حبه ، لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ، ولا يكترث بمن خالفه . [ ص: 779 ] واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما ، فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة ، محجوبين عن كل لسان ، مبعدين عند كل مسلم ، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ، ومداومة على ما هم عليه ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا .

                        وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول المجردة ، فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح . ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا : يجب على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا . فجعلوه محكوما عليه كسائر المكلفين . ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار ، بل استحسن شيئا يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ، ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ، ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمها أيسر ، ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله ، باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل .

                        قال العتبي : وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ، ولغوا وهجروا ، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول ، فحرفوا الكلم عن مواضعه ، وعدلوا به عن سبيله ، ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن ، وفساد النظم والاختلاف ، وأدلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر ، والحديث الغر ، [ ص: 780 ] واعترضت بالشبهة في القلوب ، وقدحت بالشكوك في الصدور ، قال : ولو كان ما لحنوا إليه على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتج بالقرآن عليهم ، ويجعله علم نبوته ، والدليل على صدقه ، ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله ، وهم الفصحاء والبلغاء ، والخطباء والشعراء ، والمخصوصون من بين جميع الأنام ، وبالألسنة الحداد واللدد في الخصام ، مع اللب والنهى وأصالة الرأي . فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب . وكانوا يقولون مرة : هو سحر، ومرة : هو شعر، ومرة : هو قول الكهنة، ومرة : أساطير الأولين . ولم يحك الله عنهم الاعتراض على الأحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها ، وحكي عنهم ، لأجل ذلك القدح في خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة - رضي الله عنهم - ، واتبعوهم بالحدس قالوا ما شان ، أو جروا في الطعن على الحديث جري من لا يرى عليه محتسبا في الدنيا ولا محاسبا في الآخرة .

                        وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فيه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى ، وهما من محاسن كتبه رحمه الله . [ ص: 781 ] ولم أرد قص تلك الاعتراضات تعزيزا للمعترض فيه ، لم أعن بردها لأن غيري - والحمد لله - قد تجرد له ، ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله : تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ، ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ، ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال ( وهو شأن المعتبرين من أهل العقول ) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ، ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ، ثم [ هناك ] أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم ، حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه .

                        فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل ، صرنا منه إلى معنى آخر ، وهي

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية