الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

مما يبعث على معرفة الإعجاز اختلافات المقامات وذكر في كل موضع ما يلائمه ، ووضع الألفاظ في كل موضع ما يليق به ، وإن كانت مترادفة ، حتى لو أبدل واحد منها بالآخر ، ذهبت تلك الطلاوة ، وفاتت تلك الحلاوة .

فمن ذلك أن لفظ الأرض لم ترد في التنزيل إلا مفردة ، وإذا ذكرت والسماء مجموعة لم يؤت بها معها إلا مفردة ، ولما أريد الإتيان بها مجموعة قال : ومن الأرض مثلهن ( الطلاق : 12 ) ، تفاديا من جمعها .

ولفظ البقعة لم تستعمل فيه إلا مفردة ، كقوله تعالى : في البقعة المباركة ( القصص : 30 ) فإن جمعت حسن ذلك ورودها مضافة ، كقولهم : بقاع الأرض .

وكذلك لفظ اللب مرادا به العقل لم يرد إلا مجموعا ، كقوله تعالى : [ ص: 246 ] وذكرى لأولي الألباب ( ص : 43 ) ، لذكرى لأولي الألباب ( الزمر : 21 ) فإنه يعذب دون الإفراد .

وكذلك قوله : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ( الأحزاب : 4 ) وفي موضع آخر : في بطني محررا ( آل عمران : 35 ) استعمل الجوف في الأول والبطن في الثاني مع اتفاقهما في المعنى ، ولو استعمل أحدهما في موضع الآخر ، لم يكن له من الحسن والقبول عند الذوق ما لاستعمال كل واحد منهما في موضعه .

وأما بالنسبة إلى المقامات ; فانظر إلى مقام الترغيب ، وإلى مقام الترهيب ، فمقام الترغيب كقوله تعالى : ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ( الزمر : 53 ) نجده تأليفا لقلوب العباد ، وترغيبا لهم في الإسلام .

قيل : وكان سبب نزولها أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر معهما ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا قال : وكنا نقول : قوم لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا أبدا . فنزلت فكتب بها عمر بن الخطاب إليهم رضي الله عنه حين فهم قصد الترغيب ، فآمنوا وأسلموا وهاجروا .

ولا يلزم دلالتها على مغفرة الكفر ، لكونه من الذنوب ، فلا يمكن حملها على فضل الترغيب في الإسلام ، وتأليف القلوب له لوجوه :

منها أن قوله : يغفر الذنوب جميعا عام دخله التخصيص بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ( النساء : 48 ) فيبقى معتبرا فيما عداه .

ومنها أن لفظ العباد مضافا إليه في القرآن مخصوص بالمؤمنين ; قال تعالى : عينا يشرب بها عباد الله ( الدهر : 6 ) .

[ ص: 247 ] فإن قلت : فلم يكونوا مؤمنين حال الترغيب ! قلت كانوا مؤمنين قبله ; بدليل سبب نزولها ، وعوملوا هذه المعاملة من الإضافة مبالغة في الترغيب .

وأما مقام الترهيب فهو مضاد له ; كقوله تعالى : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ( النساء : 14 ) ويدل على قصد مجرد الترهيب بطلان النصوصية من ظاهرها على عدم المغفرة لأهل المعاصي ; لأن " من " للعموم لأنها في سياق الشرط ، فيعم في جميع المعاصي ، فقد حكم عليهم بالخلود ، وهو ينافي المغفرة ، وكذلك كل مقام يضاد الآخر ، ويعتبر التفاضل بين العبارتين من وجوه :

أحدها : المعاني الإفرادية ; بأن يكون بعضها أقوى دلالة وأفخم مسمى ، وأسلس لفظا ونحوه .

الثاني : المعاني الإعرابية بأن يكون مسماها أبلغ معنى ; كالتمييز مع البدل في قوله تعالى : واشتعل الرأس شيبا ( مريم : 4 ) مع اشتعل الرأس شيبة ; وهذا أبلغ من : ( اشتعل شيب الرأس ) .

الثالث : مواقع التركيب كقوله تعالى : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين ( النحل : 51 ) فإن الأولى جعل اثنين مفعول " تتخذوا " و " إلهين " صفة له تقدمت ، فانتصبت على الحال ، والتقدير : اتخذوا إلهين اثنين ، لأن اثنين أعم من إلهين .

التالي السابق


الخدمات العلمية