الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2324 - وعن الأغر المزني - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " . رواه مسلم .

التالي السابق


2324 - ( عن الأغر ) : بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء ( المزني ) : نسبة إلى قبيلة مزينة مصغرا ، وقيل الجهني ، له صحبة ، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث ، ذكره ميرك . ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ) أي : الشأن ( ليغان ) : بضم الياء أي : يطبق ويغشى ، أو يستر ويغطي ( على قلبي ) أي : عند إرادة ربي ( وإني لأستغفر الله ) أي : لذلك الغين عن نظر العين بحجاب البين فوق مرتبة الأين ( في اليوم ) أي : الوقت الذي أراد أو الوقت الذي يغيب المريد في المراد ، وهو الذي يعبر عنه الصوفية بقولهم : الصوفي ابن الوقت أو أبو الوقت ، وقد رئي لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، قيل : المراد بالملك جبريل ، والنبي المرسل نفسه الجليل ( مائة مرة ) : أريد به الكثرة ، لأن في ذلك المقام بسط الزمان وطي اللسان .

قال الطيبي : أي : تطبق إطباق الغين وهو الغيم ، يقال : غينت السماء تغان ، وقال غيره : الغين هو الغيم ، يقال : غين عليه كذا أي : غطى عليه ، وعلى قلبي : مرفوع على نيابة الفعل ، يعني ليغشى على قلبه ، ما لا يخلو بشر عنه من سهو والتفات إلى حظوظ النفس من مأكول ومنكوح ونحوها ، فإنه كحجاب وغيم يطبق على قلبه ، فيحول بينه وبين الملأ الأعلى حيلولة ما ، فيستغفر تصفية للقلب وإزاحة للغاشية ، وهو وإن لم يكن ذنبا ، لكنه من حيث إنه بالنسبة إلى سائر أحواله نقص وهبوط إلى حضيض البشرية يشابه الذنب فيناسبه الاستغفار . قال عياض : المراد فترات وغفلات في الذكر الذي شأنه الدوام عليه ، فإذا فتر أو غفل عنه عده ذنبا واستغفر ، وقيل همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالهم فيستغفر له ، وقيل : اشتغاله بالنظر في مصالح أمته ومحاربة أعدائه وتأليف المؤلفة ، ونحو ذلك من معاشرة الأزواج والأكل والشرب والنوم ، وذلك مما يحجبه عن عظم مقامه ، وهو حضوره في حضيرة القدس فيعده ذنبا ويستغفر منه ، وقيل : كما أن إطباق الجفن على الباصرة مصقلة لها وحفظ عن الغبار والدخان وما يضرها ، كذلك ما كان يرد على قلبه وقاية له وحفظا له عن غبار الأغيار وصقالة له ، فكان في الحقيقة كمالا ، وإن كان في صورة النقصان كإطباق الجفن ، وبعد الصقل كان يرى قصورات لازمة للبشرية .

وقال ابن الملك : قيل : لما كان أتم القلوب صفاء وأكثرها ضياء ، وكان لم يكن له بد من النزول إلى الرخص والالتفات إلى حظوظ النفس من معاشرة الأزواج والأكل والشرب والنوم ونحوها ، وكان إذا أعطى شيئا نفسه أسرع كدورته إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته ، فكان إذا أحس لشيء من ذلك يلوم نفسه بترك كمال الحضور ويعده تقصيرا ويستغفر منه . اهـ . والحاصل أن كل أحد فسر في مقاله بمقتضى حاله وفهم معانيه وتحقيق معانيه ، فكل إناء يترشح بما فيه ، ولكن لا يخفى على المحققين أن لا يقاس الملوك بالحدادين ، فكذا لا يقاس أحوال القلب السليم بما يجري على القلب السقيم ، فالأولى أن ينزه قلبه عن الذنوب صورة ومعنى ، ويئول الاستغفار والتوبة في حقه بطريق الإجمال تأويلا حسنا ، وتفصيل أحواله وبيان انتقاله من نقصانه إلى كماله يوكل إلى خالق القلوب وعلام الغيوب ، ولهذا لما سئل الأصمعي عن هذا الحديث فقال : عن قلب من تروون هذا ؟ فقالوا : عن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال : لو كان عن قلب غيره لكنت أفسره لك .

قال الطيبي : ولله دره في انتهاجه منهج الأدب وإحلال القلب الذي جعله الله موقع وحيه ، ومنزلة تنزيله ، وبعد فإن قلبه مشرب سد عن أهل اللسان موارده ، وفتح لأهل السلوك مسالكه . اهـ . فالمختار ما قال بعض الأخيار من أن المختار أن هذا من المتشابه الذي لا يخاض في معناه ، ومجمل الكلام ما قاله القطب الإمام أبو الحسن الشاذلي - رحمه الله - : هو غين أنوار لا غين أغيار ، وأقول : هو غين العين لا غين الغين . ( رواه مسلم ) .

[ ص: 1611 ]



الخدمات العلمية