الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ( 87 ) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ( 88 ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( 89 ) )

اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت .

فقال بعضهم : نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، وكان مسلما فارتد بعد إسلامه .

ذكر من قال ذلك :

7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل لي من توبة ؟ قال : فنزلت : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى قوله [ ص: 573 ] : " وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " فأرسل إليه قومه فأسلم .

7361 - حدثني ابن المثنى قال : حدثني عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بنحوه ، ولم يرفعه إلى ابن عباس إلا أنه قال : فكتب إليه قومه ، فقال : ما كذبني قومي ! فرجع .

7362 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا حكيم بن جميع ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ارتد رجل من الأنصار ، فذكر نحوه .

7363 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان قال : أخبرنا حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه ، فأنزل الله - عز وجل - فيه القرآن : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة . قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .

7364 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق " قال : أنزلت في الحارث بن سويد الأنصاري ، كفر بعد إيمانه ، فأنزل الله - عز وجل - فيه هذه الآيات ، إلى : " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " [ ص: 574 ] ثم تاب وأسلم ، فنسخها الله عنه ، فقال : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " .

7365 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات " قال : رجل من بني عمرو بن عوف ، كفر بعد إيمانه .

7366 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

7367 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : هو رجل من بني عمرو بن عوف ، كفر بعد إيمانه قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : لحق بأرض الروم فتنصر ، ثم كتب إلى قومه : " أرسلوا ، هل لي من توبة ؟ " قال : فحسبت أنه آمن ، ثم رجع قال ابن جريج ، قال عكرمة ، نزلت في أبي عامر الراهب ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك " الآيات .

وقال آخرون : عنى بهذه الآية أهل الكتاب ، وفيهم نزلت .

ذكر من قال ذلك :

7368 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " فهم أهل الكتاب ، عرفوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثم كفروا به . [ ص: 575 ]

7369 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " الآية كلها . قال : اليهود والنصارى .

7370 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " الآية ، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه ، وكفروا بعد إقرارهم ، حسدا للعرب ، حين بعث من غيرهم .

7371 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " قال : هم أهل الكتاب ، كانوا يجدون محمدا - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم ، ويستفتحون به ، فكفروا بعد إيمانهم .

قال أبو جعفر : وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن من أن هذه الآية معني بها أهل الكتاب على ما قال . غير أن الأخبار بالقول الآخر أكثر ، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن . وجائز أن يكون الله - عز وجل - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات . ثم عرف عباده سنته فيهم ، فيكون داخلا في ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث ، ثم كفر به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتد وهو حي عن [ ص: 576 ] إسلامه . فيكون معنيا بالآية جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .

فتأويل الآية إذا : " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم " يعني : كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوما جحدوا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - " بعد إيمانهم " أي : بعد تصديقهم إياه ، وإقرارهم بما جاءهم به من عند ربه " وشهدوا أن الرسول حق " يقول : وبعد أن أقروا أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلقه حقا " وجاءهم البينات " يعني : وجاءهم الحجج من عند الله والدلائل بصحة ذلك ؟ " والله لا يهدي القوم الظالمين " يقول : والله لا يوفق للحق والصواب الجماعة الظلمة ، وهم الذين بدلوا الحق إلى الباطل ، فاختاروا الكفر على الإيمان .

وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى " الظلم " - وأنه وضع الشيء في غير موضعه - بما أغنى عن إعادته .

" أولئك جزاؤهم " يعني : هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق - " جزاؤهم " ثوابهم من عملهم الذي عملوه " أن عليهم لعنة الله " يعني : أن يحل بهم من الله الإقصاء والبعد ، ومن الملائكة والناس الدعاء بما يسوؤهم من العقاب " أجمعين " يعني : من جميعهم لا من [ ص: 577 ] بعض من سماه - جل ثناؤه - من الملائكة والناس ، ولكن من جميعهم . وإنما جعل ذلك - جل ثناؤه - ثواب عملهم ؛ لأن عملهم كان بالله كفرا .

وقد بينا صفة " لعنة الناس " الكافر في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته .

" خالدين فيها " يعني : ماكثين فيها ، يعني في عقوبة الله

" لا يخفف عنهم العذاب " لا ينقصون من العذاب شيئا في حال من الأحوال ، ولا ينفسون فيه " ولا هم ينظرون " يعني : ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون . وذلك كله عين الخلود في العقوبة في الآخرة .

ثم استثنى - جل ثناؤه - الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال - تعالى ذكره - : " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " يعني : إلا الذين تابوا [ ص: 578 ] من بعد ارتدادهم عن إيمانهم ، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله ، وصدقوا بما جاءهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من عند ربهم " وأصلحوا " يعني : وعملوا الصالحات من الأعمال " فإن الله غفور رحيم " يعني : فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره " غفور " يعني : ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردة ، فتارك عقوبته عليه ، وفضيحته به يوم القيامة ، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه . " رحيم " متعطف عليه بالرحمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية