الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "حتى إذا فشلتم " ، حتى إذا جبنتم وضعفتم "وتنازعتم في الأمر " ، يقول : واختلفتم في أمر الله ، يقول : وعصيتم وخالفتم نبيكم ، فتركتم أمره وما عهد إليكم . وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأحد بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين ، الذين ذكرنا قبل أمرهم .

وأما قوله : " من بعد ما أراكم ما تحبون " ، فإنه يعني بذلك : من بعد الذي أراكم الله ، أيها المؤمنون بمحمد ، من النصر والظفر بالمشركين ، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها ، وقبل خروج خيل المشركين على المؤمنين من ورائهم .

وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل . [ ص: 290 ]

وقد مضى ذكر بعض من قال : وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى .

ذكر من قال ذلك :

8023 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر " ، أي اختلفتم في الأمر " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وذاكم يوم أحد ، عهد إليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر فنسوا العهد ، وجاوزوا ، وخالفوا ما أمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقذف عليهم عدوهم ، بعد ما أراهم من عدوهم ما يحبون .

8024 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس - يعني : يوم أحد - فكانوا من ورائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كونوا هاهنا ، فردوا وجه من فر منا ، وكونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا " . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه ، قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم ، بعضهم لبعض ، لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ورأوا الغنائم ، [ ص: 291 ] قالوا : "انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها "! وقالت طائفة أخرى : "بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا "! فذلك قوله : " منكم من يريد الدنيا " ، للذين أرادوا الغنيمة " ومنكم من يريد الآخرة " ، للذين قالوا : "نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا " . فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فكان فشلا حين تنازعوا بينهم يقول : "وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة .

8025 - حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " حتى إذا فشلتم " ، يقول : جبنتم عن عدوكم "وتنازعتم في الأمر " ، يقول : اختلفتم " وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، وذلك يوم أحد قال لهم : "إنكم ستظهرون ، فلا أعرفن ما أصبتم من غنائمهم شيئا حتى تفرغوا " ، فتركوا أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به ، فانقذف عليهم عدوهم ، من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون .

8026 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : حتى إذا فشلتم ، قال ابن جريج ، قال ابن عباس : الفشل : الجبن .

8027 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " ، من الفتح . [ ص: 292 ]

8028 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : "حتى إذا فشلتم " ، أي تخاذلتم "وتنازعتم في الأمر " ، أي : اختلفتم في أمري "وعصيتم " ، أي : تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم; وما عهد إليكم ، يعني الرماة "من بعد ما أراكم ما تحبون " ، أي : الفتح لا شك فيه ، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم .

8029 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : "من بعد ما أراكم ما تحبون " ، يعني : من الفتح .

قال أبو جعفر : وقيل معنى قوله : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون وأنه من المقدم الذي معناه التأخير ، وإن "الواو " دخلت في ذلك ، ومعناها السقوط ، كما يقال ، ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) [ سورة الصافات : 103 - 104 ] معناه : ناديناه . وهذا مقول في : ( حتى إذا ) وفي ( فلما أن ) . [ لم يأت في غير هذين ] . ومنه قول الله عز وجل : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ثم قال واقترب الوعد الحق ) [ سورة الأنبياء : 96 - 97 ] . [ ص: 293 ] ومعناه : اقترب ، كما قال الشاعر :


حتى إذا قملت بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا     وقلبتم ظهر المجن لنا
إن اللئيم العاجز الخب



التالي السابق


الخدمات العلمية