الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وحسبوا ألا تكون فتنة أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم - كما قال الزجاج - أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، أو لإمهال الله تعالى لهم، أو لنحو ذلك، وعن مقاتل: تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي، ويعقوب: ( أن لا تكون ) بالرفع، على أن ( أن ) هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف ( أن ) وحذف ضمير الشأن، وهو اسمها، وتعليق فعل الحسبان بها - وهي للتحقيق - لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و( أن ) بما في حيزها ساد مسد مفعوليه، وقيل: إن ( حسب ) هنا بمعنى علم، و( أن ) لا تخفف إلا بعد ما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف، أي: وحسبوا عدم الفتنة كائنا، ونقل ذلك عن الأخفش، و( تكون ) على كل تقدير تامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: فعموا عطف على ( حسبوا ) والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد ( وعموا ) عن الدين بعدما هداهم الرسل إلى معالمه، وبينوا لهم مناهجه وصموا عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة، وركبوا المحارم، وقتلوا شعيا، وقيل: أرميا، عليهما السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تاب الله عليهم حين تابوا، ورجعوا عما كانوا عليه [ ص: 206 ] من الفساد بعدما كانوا ببابل دهرا طويلا، تحت قهر بختنصر ، أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله - عز وجل - ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره، ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم، وتراجع من تفرق منهم في الأكناف، فاستقروا وكثروا، وكانوا كأحسن ما كانوا عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم، فردهم إلى الشام ، وملك عليهم دانيال - عليه السلام - فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر ، فقامت فيه الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى:ثم رددنا لكم الكرة عليهم ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم؛ تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم؛ تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم عموا وصموا وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم، وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى ، وقصدهم قتل عيسى - عليهم السلام - وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيا إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل - وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم - لكنها في عصر موسى - عليه السلام – ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده - عليه السلام – بأعصار، وكذا القول - على زعمه - في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى - عليه السلام - حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين، فلا يتحقق تأخره عنها، وحمل ( ثم ) للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن العمى والصمم أولا إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى - عليهما السلام - وثانيا إشارة إلى ما كان في زمن نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع، فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى، ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: ( عموا وصموا ) بالضم على تقدير: عماهم الله تعالى وصمهم، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: كثير منهم بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل، والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب، يعبر عنها النحاة بـ( أكلوني البراغيث ) أو هو خبر مبتدأ محذوف، أي: العمى والصم كثير منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم، أي: صادر ذلك منهم كثيرا، وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ، والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا، والتباسه بالفاعل في لغة ( أكلوني البراغيث ) لم يعتبروه مانعا؛ لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل ( الزيدان قاما ) لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل، نحو: أنا قمت، فإن ( أنا ) لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر، أعني البدل، فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما قال سبحانه: كثير منهم لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك والله بصير بما يعملون أي بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية؛ استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور، ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا [ ص: 207 ] على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع ( بصير ) هنا مع قوله سبحانه: ( عموا ).

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية