الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وكفلها زكريا )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكفلها "

فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة : " وكفلها " مخففة " الفاء " ، بمعنى : ضمها زكريا إليه ، اعتبارا بقول الله - عز وجل - : ( يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) [ سورة آل عمران : 44 ] .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين . ( وكفلها زكريا ) ، بمعنى : وكفلها الله زكريا .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : ( وكفلها ) مشددة " الفاء " بمعنى : وكفلها الله زكريا ، بمعنى : وضمها الله إليه ؛ لأن زكريا أيضا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له ، والآية التي أظهرها لخصومه فيها ، فجعله بها أولى منهم ، إذ قرع فيها من شاحه فيها . [ ص: 346 ] وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذا تنازعوا فيها أيهم تكون عنده ، تساهموا بقداحهم ، فرموا بها في نهر الأردن . فقال بعض أهل العلم : ارتز قدح زكريا ، فقام ولم يجر به الماء ، وجرى بقداح الآخرين الماء . فجعل الله ذلك لزكريا علما أنه أحق المتنازعين فيها بها .

وقال آخرون : بل اصاعد قدح زكريا في النهر ، وانحدرت قداح الآخرين مع جرية الماء وذهبت ، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها .

قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان من ذلك فلا شك أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها ، واختصامهم في أولاهم بها . [ ص: 347 ]

وإذ كان ذلك كذلك ; كان بينا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد " كفلها " .

وأما ما اعتل به القارئون ذلك بتخفيف " الفاء " من قول الله : ( أيهم يكفل مريم ) ، وأن ذلك موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله : " وكفلها " فحجة دالة على ضعف احتيال المحتج بها .

ذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل : " كفل فلان فلانا فكفله فلان " . فكذلك القول في ذلك : ألقى القوم أقلامهم : أيهم يكفل مريم ، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام .

قال أبو جعفر : وكذلك اختلفت القرأة في قراءة " زكريا " .

فقرأته عامة قرأة المدينة بالمد .

وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر .

وهما لغتان معروفتان ، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين ، وليس في القراءة بإحداهما خلاف لمعنى القراءة الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب .

غير أن الصواب عندنا - إذا مد " زكريا " أن ينصب بغير تنوين ؛ لأنه اسم من أسماء العجم لا يجرى ، ولأن قراءتنا في " كفلها " بالتشديد ، وتثقيل " الفاء " . ف " زكرياء " منصوب بالفعل الواقع عليه . [ ص: 348 ]

وفي " زكريا " لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها ؛ لخلافها مصاحف المسلمين ، وهو " زكري " بحذف المدة و " الياء " الساكنة ، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء ، فتنونه وتجريه في أنواع الإعراب مجاري " ياء " النسبة .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : وضمها الله إلى زكريا ، من قول الشاعر :


فهو لضلال الهوام كافل



يراد به : لما ضل من متفرق النعم ومنتشره ضام إلى نفسه وجامع . وقد روي :


فهو لضلال الهوافي كافل



بمعنى أنه لما ند فهرب من النعم ضام من قولهم : " هفا الظليم " إذا أسرع الطيران .

يقال منه للرجل : " ما لك تكفل كل ضالة " ؟ يعني به : تضمها إليك وتأخذها .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال حدثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة في قوله : ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت ) قال : ألقوا أقلامهم فجرت بها الجرية ، إلا قلم زكريا اصاعد ، فكفلها زكريا .

6903 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وكفلها زكريا " قال : ضمها إليه . قال : ألقوا أقلامهم - يقول : عصيهم - قال : فألقوها تلقاء جرية الماء ، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء ، فقرعهم .

6904 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال الله - عز وجل - : " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " فانطلقت بها أمها في خرقها - يعني أم مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم : انطلقت حين بلغت إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يجربونه ، اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه . وكان زكريا أفضلهم يومئذ ، وكان بينهم ، وكانت خالة مريم تحته . فلما أتوا بها اقترعوا [ ص: 350 ] عليها ، وقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، تحتي أختها . فأبوا ، فخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها : أيهم يقوم قلمه فيكفلها . فجرت الأقلام ، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين ، فأخذ الجارية . وذلك قول الله - عز وجل - : " وكفلها زكريا " فجعلها زكريا معه في بيته ، وهو المحراب .

6905 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وكفلها زكريا " يقول : ضمها إليه .

6906 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وكفلها زكريا " قال : سهمهم بقلمه .

6907 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

6908 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم . قال : فتشاح عليها أحبارهم ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها . قال قتادة : وكان زكريا زوج أختها ، فكفلها ، وكانت عنده وحضنها . [ ص: 351 ]

6909 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة : أنه أخبره ، عن عكرمة وأبي بكر ، عن عكرمة قال : ثم خرجت بها يعني : أم مريم بمريم في خرقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون ، أخي موسى بن عمران . قال : وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فإني حررتها ، وهي ابنتي ، ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي . فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا . فقال زكريا : ادفعوها إلي ، فإن خالتها عندي . قالوا : لا تطيب أنفسنا ، هي ابنة إمامنا . فذلك حين اقترعوا ، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا ، فكفلها .

6910 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جعلها زكريا معه في محرابه ، قال الله - عز وجل - : " وكفلها زكريا " قال حجاج قال : ابن جريج : " الكاهن " في كلامهم : العالم .

6911 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " وكفلها زكريا " بعد أبيها وأمها ، يذكرها باليتم ، ثم قص خبرها وخبر زكريا .

6912 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن [ ص: 352 ] عطاء ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " قال : كانت عنده .

6913 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : " وكفلها زكريا " قال : جعلها زكريا معه في محرابه .

6914 - حدثني محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " وتقارعها القوم ، فقرع زكريا ، فكفلها زكريا .

وقال آخرون : بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريم ، كفلها بغير اقتراع ولا استهام عليها ، ولا منازعة أحد إياه فيها . وإنما كفلها ؛ لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة ، وعند زكريا خالتها ألاشباع ابنة فاقوذ وقد قيل : إن اسم أم يحيى خالة عيسى : إشبع .

6915 - حدثنا بذلك القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبأي : أن اسم أم يحيى أشبع . [ ص: 353 ]

فضمها إلى خالتها أم يحيى ، فكانت إليهم ومعهم ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها .

قالوا : والاقتراع فيها بالأقلام ، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم ، ضعف زكريا عن حمل مئونتها ، فتدافعوا حمل مئونتها ، لا رغبة منهم ، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مئونتها . وسنذكر قصتها على قول من قال ذلك ، إذا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى .

6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق .

فعلى هذا التأويل تصح قراءة من قرأ : " وكفلها زكريا " بتخفيف " الفاء " لو صح التأويل . غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الأول : أن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها ، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها . فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية