الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال أبو عبد الله : فكل آية وعد الله المؤمنين فيها الجنة ، وبشرهم بها ، فإنما أراد المؤمنين الذين عملوا الصالحات ، استدلالا بهذه الآيات ، ولو لم يكن ذلك كذلك ، للزمنا أن نثبت الشهادة بالجنة لكل من لزمه اسم الإيمان ، وجرت عليه الأحكام التي أجراها الله على المؤمنين على أي حال مات من تضييع الفرائض ، وارتكاب المحارم بعد أن لا يكفر بالله ، فأما تفرقتهم بين قول الرجل : أنا مؤمن ، وبين قوله : آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، فقالوا : لا يجوز أن يقول : أنا مؤمن حتى يستثنى ، فإنه إن قال : أنا مؤمن بلا استثناء لزمه أن يشهد أنه في الجنة ، ولكنه يقول : آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله .

قلنا : لم نجد بين قوله : أنا مؤمن ، وبين قوله : آمنت بالله فرقا في المعنى ، سواء عليه قال : آمنت بالله ، أو أنا مؤمن بالله ، لأن معنى آمنت فعلت الإيمان ، وأنا مؤمن أنا فاعل الإيمان ، فهو مؤمن .

فإن قالوا : من قال : أنا مؤمن لزمه أن يقول : إني في الجنة ، لأن الله وعد المؤمنين الجنة . [ ص: 570 ]

قيل : وكذلك من قال : آمنت بالله ، ورسله لزمه أن يقول : إني في الجنة ، لأن الله وعد الذين آمنوا بالله ، ورسله الجنة ، كما وعد المؤمنين الجنة ، قال الله : ( وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ) .

وقال : ( يوم ترى المؤمنين ، والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ، وبأيمانهم ) .

قال : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) .

وقال : ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) .

وقال في موضع آخر : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) فبشر الذين آمنوا كما بشر المؤمنين ، ووعد الله الذين آمنوا بالله ، ورسله ، كما وعد المؤمنين ، لا فرق بين الأمرين في كتاب ، ولا سنة ، ولا لغة ، ولا معقول .

فإن قالوا : فإن الله لم يرد بإيجابه الجنة للذين آمنوا بالله ، ورسله كل من لزمه هذا الاسم .

قيل لهم : قد أطلق الله لهم الوعد على هذا الاسم . [ ص: 571 ]

فمن ثبت له هذا الاسم بوجه من الوجوه ، لزمكم أن توجبوا له الجنة على ظاهر دعواكم في المؤمنين .

فإن قلتم : إنما عنى الله من لم يأت بكبيرة من الذين آمنوا بالله ، ورسله .

قيل لهم : وكذلك عنى بقوله : ( وبشر المؤمنين ) و ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) بورعهم ، عن الكبائر ، وقيامهم بواجب حق الله ، فكمل لهم الإيمان بذلك ، فوجب لهم الجنة .

* قال أبو عبد الله : وأما احتجاج من احتج بأن الله وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرأفة ، والرحمة للمؤمنين ، ثم قال : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) ، فإن الله عز وجل أوجب على الزانيين الحد ، وأمر بإقامته عليهما ، ونهاهم أن يأخذ بهما رأفة ، فيعطلوا عنهما الحد الذي أوجبه الله عليهما رأفة منهم بهما ، فالرأفة على وجهين : رأفة تدعو إلى تعطيل الحد ، وهي المنهي عنها ، ورأفة تدعو إلى إقامة الحد عليهما ، شفقة عليهما من عذاب الآخرة ، فهذه غير منهي عنها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ، وكانت رأفته بهم لا تحمله على تعطيل الحدود عنه ، فالرأفة التي تدعو إلى تعطيل الحد منهية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والرأفة التي وجبت للمؤمنين [ ص: 572 ] بالإيمان هو موصوف بها ، ألا تراه كان يقيم الحدود عليهم مع ظهور شدة ذلك ، ومشقته عليه ، ولولا رحمته ، ورأفته لما شق عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية