الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
800 - حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا إبراهيم بن حمزة ، ثنا بشر بن السري ، عن عمر بن سعيد ، عن المغيرة بن الحكيم الصنعاني ، قال : " ذكر لي أن التلبية إنما جعلت يجدد بها الإيمان ، ويثبت بها الإسلام " .

* قال أبو عبد الله : وزعم بعض المرجئة أن الإقرار باللسان هو التصديق ، فهو وتصديق القلب معنى واحد ، وإن اختلفا في أعيانهما . [ ص: 789 ]

يقال لهم : كيف يختلف شيئان في أعيانهما ، ويتفقان في الاسم من جهة ما اختلفا ؟ !

فإن قالوا : ذلك موجود في اللغة ، كما يقول القائل : ديني ، ودين محمد صلى الله عليه وسلم واحد ، وفعل محمد غير فعله ، لأن ضميره غير ضميره ، وقوله غير قوله .

فيقال لهم : إنما يقول القائل ذلك يريد أن الدين الذي شرعه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، هو ديني ، ولا يريد أن ضمير محمد هو ضميري ، لأن اسم الإيمان في مجاز اللغة يقع على وجهين : أحدهما على الأمر به ، والدلالة عليه في الظاهر ، والآخر حقيقة في المعنى ، فأما الظاهر في اللسان الذي هو على المجاز ، فقول المسلمين : جاءنا محمد بالإيمان ، وشرح لنا الإيمان ، وجاءنا بالدين ، فإنما يعنون بيان الإيمان ، وتفسيره ، كيف هو ، لأن الله عز وجل أمر بالإيمان ، ثم فسر لنا : ما الإيمان ، فسمي تفسير الإيمان إيمانا ، فأما على الحقيقة في المعنى ، فإنما الإيمان فعل من المؤمن ، ولا جائز أن يكون كلام الله فعلا للمؤمنين ، وسمى الله الدلالة على الإيمان ، والأمر به إيمانا ، والإيمان في عينه فعل المؤمن كما يقول : جاءنا محمد صلى الله عليه وسلم بالصلاة ، وإنما يريد أمرنا بالصلاة ، واستخرجها لنا ، والصلاة في عينها ليست بالأمر ، [ ص: 790 ] وبالشرح ، ولكنها المأمور بها المشروحة للعباد ، لأنها في عينها افتتاح بتكبير ، وقراءة ، وركوع ، وسجود ، وذلك غير الأمر .

فقول القائل : " ديني ، ودين محمد صلى الله عليه وسلم واحد " ، يريد أني أدين بالدين الذي أمر الله به محمدا صلى الله عليه وسلم واحدا إنما يعني أنا قد صلينا الصلاة التي أمر بها جميعا إلا أن حركاته ، وسكونه في الصلاة هي حركاتي وسكوني ، ولو كان ذلك معنى واحدا لكان ديني ، ودين محمد صلى الله عليه وسلم على معنى أن فعله فعلي بمعنى واحد ، لكان لي من الأجر مثل ما له ، فساويته في الأجر من الله ، ولا يقول هذا مسلم ، فكذلك لم يعن أن التصديق هو القول باللسان ، بل القول في عينه حروف مؤلفة ، وصوت ، وحركات ، والتصديق في القلب عقد ضمير لا صوت ، ولا حروف ، ولا حركات ، فمحال أن يكون أحدهما الآخر ، لو جاز أن يكون القول تصديقا ، لجاز أن يكون التصديق قولا ، فكان من قال بلسانه ، فقد صدق بقلبه ، وقد وجدنا المنافقين قد قالوا بألسنتهم ، فكذبهم الله ، ولم يجعله منهم تصديقا .

قال : ويقال لهم : أخبرونا عن الإيمان : هو بعينه لا يتقلب أبدا ، أم للطاعة بالأمر ، والنهي ؟ [ ص: 791 ] فإن قالوا : بعينه ، قيل لهم : فلا يتقلب أبدا ما كانت العين موجودة .

فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فهل تعلمون أن الله حرم السبت على بني إسرائيل ، وشحوم البطون ، وكل ذي ظفر ، فكان ذلك عندهم محرما ، وكانوا بالإيمان به مؤمنين ، ثم إن الله عز وجل أحله للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلو أن أمة محمد حرمته بعدما أحله الله ، ما حكمهم عندكم ؟

فإن قالوا : كفارا ، قيل لهم : فالأمر الذي كان من بني إسرائيل إيمانا ، لو أتى به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان كفرا ، فقد بين أن الإيمان ليس بعينه ، ولو كان بعينه لما انقلب أبدا ، فقد ثبت أنه للطاعة بالأمر ، والنهي لا بعينه .

إن كان في حال منهم إيمانا ، ثم صار في الحال الأخرى كفرا ، فقد ثبتوا أنه بعينه ، وأنه كيف ما قلبهم الله بالأمر ، والنهي ، كان ذلك منهم إيمانا ، وكان تركه كفرا .

فإن قالوا : إن الإيمان هو التصديق فعليهم أن يصدقوا في كل حال بما يأمرهم به .

قيل لهم : أرأيتم لو قالوا حين حولهم الله عن بيت المقدس إلى الكعبة : الله صادق بهما جميعا ، وقد صدقنا بقوله فآمنا به ، ولكنا نصلي إلى بيت المقدس ، كما كنا [ ص: 792 ] أولا مخافة عيب الناس أن يقولوا : بدل دينهم ، ونحن نعلم أن الله صادق ، وأنه قد نسخها .

فإن قالوا : هم كفار ، قيل : ولم ؟ !

فإن قالوا : ليذعنوا ، ويخضعوا بالطاعة .

قيل لهم : وأين وجدتم ذلك في اللغة إيمانا ، وهم يقولون : نعم ، هو علينا حق ، نقر به ، ونصدق ، ولكنا نصلي إلى بيت المقدس كراهة اللائمة .

فإن قالوا : لم يقروا بعد ، قيل لهم : لم يقروا بالفعل ، ولم يقروا أنه حق واجب .

فإن قالوا : لم يقروا بالفعل ، قيل لهم : فالإقرار بالفعل إنما هو إرادة يعبروا عنها ، أنا نفعل ، وإن لم يفعلوا كفروا في قولكم ، فقد ثبت أن الإيمان إرادة ، ووعد بالقول أن يفعلوا ، وهنا خلاف ما ادعيتم في اللغة .

ويقال لهم : ما تقولون في من زعم أن الخمر حلال ، هل كفر ؟

فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فهل ترك إيمانا بتحليله الخمر ؟

فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : فهو كافر بالله ، وبالقرآن ؟

فإن قالوا : نعم ، قيل : فما تقولون في رجل أقر بالله ، [ ص: 793 ] وبالرسول صلى الله عليه وسلم ، وبما افترض الله عليه ، وأن الخمر عليه حرام ، ثم استحلها ، هل كفر بالله ، وبرسوله أم بالخمر ؟

فإن قالوا : بالله ، وبرسوله ، قيل : فما على الإمام أن يستتيبه منه ؟ أيستتيبه من تحليل الخمر ، أم يستتيبه من الجحد بالله ، حتى يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقر بجميع الفرائض ؟

فإن قالوا : نعم زعموا أن الإقرار بتحريم الخمر الإقرار بجميع الدين ، والكفر بها الكفر بجميع الدين ، مع خروجهم من الإجماع ، لأنهم قد أجمعوا أنه لا يستتاب من تحليل الخمر .

أفي ذلك دليل أنه مؤمن بما سواها ، فقد كفروه ، وفيه أكثر الإيمان ، لأنه لو قال بعد استحلاله الخمر : الزنا حلال ، ازداد بذلك كفرا إلى كفره الأول .

فإن قالوا : إنه يزداد كفرا ، ولا يكون بازدياده الكفر تاركا للإيمان ، فقد أصابوا ، لأنه إن كان لم يترك بذلك إيمانا ، فهو إذا رجع عن تلك الخلة لم يصب بها إيمانا .

فإن قالوا : قد يزداد كفرا إلى كفر بلا ترك إيمان ، قد يزعم أن الشمس ربه ، ثم يضيف إليها القمر ، فيزداد كفرا ، ولم يترك بذلك إيمانا . [ ص: 794 ]

قلنا : ليس عن كافر لم يؤمن بشيء سألناكم ، إنما سألناكم عن من زعم أن الله ربه ، ثم قال : إن الشمس أيضا ربه هل ترك إيمانا بالتوحيد ، ولم ينكر الخالق ، فإنما يصاب الإيمان بترك الكفر ، وإنما عليه أن ينفي الشرك ، وليس عليه أن يقر أن الله خالقه ، لأنه مقر بذلك ، ولكن عليه أن يقر أن الله خالقه وحده ، وينفي الشريك الذي أدخله ، وذلك لو أقر أن الله خالقه ، وربه وحده لا شريك له ، ولم يقر بتحريم الزنا ، وإنما عليه أن يقر بتحريم الزنا ، ويؤمن به ، ومنه يستتاب ، ولا يقال له : أقر بأن الله خالقك .

التالي السابق


الخدمات العلمية