الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          251 - فصل

                          قالوا : " ولا نتكنى بكناهم " .

                          وهذا لأن الكنية وضعت تعظيما وتكريما للمكنى بها كما قال :


                          أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوأة اللقبا

                          وأيضا ففي تكنيهم بكنى المسلمين اشتباه بالكنية ، والمقصود التمييز حتى في الهيئة والمركب واللباس .

                          فإن قيل : فما تقولون في جواز تسميهم بأسماء المسلمين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله وعبد الرحمن وما أشبهها ؟

                          [ ص: 1317 ] قيل : هذا موضع فيه تفصيل ، فنقول : الأسماء ثلاثة أقسام :

                          [ الأول ] : قسم يختص المسلمين .

                          [ والثاني ] : قسم يختص الكفار .

                          [ والثالث ] : قسم مشترك .

                          فالأول : كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فهذا النوع لا يمكنون من التسمي به ، والمنع منه أولى من المنع من التكني بكناية المسلمين ، فصيانة هذه الأسماء عن أخابث خلق الله أمر جسيم .

                          والثاني : كجرجس وبطرس ويوحنا ومتى ونحوها ، فلا يمنعون منه ولا يجوز للمسلمين أن يتسموا بذلك ؛ لما فيه من المشابهة فيما يختصون به .

                          والنوع الثالث : كيحيى وعيسى وأيوب وداود وسليمان وزيد وعمر وعبد الله وعطية وموهوب وسلام ونحوها ، فهذا لا يمنع منه أهل الذمة ولا المسلمون .

                          [ ص: 1318 ] فإن قيل : فكيف تمنعونهم من التسمي بأسماء المسلمين وتمكنونهم من التسمية بأسماء الأنبياء كيحيى وعيسى وداود وسليمان وإبراهيم ويوسف ويعقوب ؟

                          قيل : لأن هذه الأسماء قد كثر اشتراكها بين المسلمين والكفار بخلاف أسماء الصحابة واسم نبينا فإنها مختصة ، فلا يمكن أهل الذمة من التسمي بها .

                          وقد قال الخلال في " الجامع " باب في أهل الذمة يكنون :

                          أخبرني حرب قال : قلت لأحمد : أهل الذمة يكنون ؟ قال : نعم ؛ لا بأس ، وذكر أن عمر بن الخطاب قد كنى .

                          أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق بن إبراهيم حدثهم قال رأيت أبا عبد الله كنى نصرانيا طبيبا ، قال : يا أبا إسحاق ، ثم أخرج إلي فيه بابا .

                          أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم ، حدثنا إسحاق بن منصور أنه قال لأبي عبد الله : يكره أن يكنى غير المسلم ؟ فقال : أليس النبي صلى الله [ ص: 1319 ] عليه وسلم حين دخل [ على ] سعد بن عبادة قال : " ما ترى ما يقول أبو الحباب ؟ "

                          أخبرني محمد بن أبي هارون أن أبا الحارث حدثهم قال : سألت أبا عبد الله : أيكنى الذمي ؟

                          قال : نعم ؛ قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسقف نجران : أسلم يا أبا الحارث .

                          [ ص: 1320 ] أخبرني أحمد بن محمد بن مطر وزكريا بن يحيى قالا : ثنا أبو طالب أنه سأل أبا عبد الله : يكني الرجل أهل الذمة ؟ قال : قد كنى النبي صلى الله عليه وسلم أسقف نجران وعمر رضي الله عنه قال : يا أبا حسان ، إن كنى أرجو أنه لا بأس به .

                          أخبرني [ محمد ] بن علي ، حدثنا مهنا قال : سألت أحمد : هل يصلح تكني اليهودي والنصراني ؟ فحدثني أحمد ، عن ابن عيينة ، عن أيوب ، عن يحيى بن أبي كثير : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لنصراني : [ ص: 1321 ] أسلم يا أبا حسان ، أسلم تسلم .

                          قلت : ومدار هذا الباب وغيره مما تقدم على المصلحة الراجحة ، فإن كان في كنيته تمكينه من اللباس وترك الغيار والسلام عليه أيضا ، ونحو ذلك تأليفا له ورجاء إسلامه وإسلام غيره كان فعله أولى كما يعطيه من مال الله لتألفه على الإسلام ، فتألفه بذلك أولى ، وقد ذكر وكيع ، عن ابن عباس أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب : " سلام عليك " .

                          ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر ، وعلم أن كثيرا من هذه الأحكام التي ذكرناها من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة .

                          ولهذا لم يغيرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه ، وغيرهم عمر رضي الله عنه ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لأسقف [ ص: 1322 ] نجران : أسلم يا أبا الحارث . تأليفا له واستدعاء لإسلامه لا تعظيما له وتوقيرا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية