الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الثالثة عشرة

                        إن قوله عليه الصلاة والسلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف ، إذ لو كان للحق فرق أيضا لم يقل إلا واحدة ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق ، لأنها الحاكمة بين المختلفين ، لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إذ رد التنازع إلى الشريعة ، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة . وقوله : في شيء نكرة في سياق الشرط ، فهي صيغة من صيغ العموم . فتنتظم كل تنازع على العموم ، فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا . وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل [ ص: 756 ] وهو نص فيما نحن فيه ، فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق ، بخلاف السبل المختلفة .

                        فإن قيل : فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود :

                        واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرها إلى آخر الحديث ، فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثا ، وكانوا فرقة واحدة ، وحين بينوا ظهر كلهم على الحق والصواب . فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة ، لولا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة .

                        فالجواب أولا : أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله ، إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة .

                        وثانيا : أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثا فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع ، وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدمها ، وفي كيفية الأمر والنهي خاصة .

                        فهذه الفرق لا تنافي صحة الجمع بينهما ، فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكام ومن أشبههم ، ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ، ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب - [ ص: 757 ] إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها - وجميع ذلك خطة واحدة من خصال الإيمان ، ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام : ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل .

                        فإذا كان كذلك فلا يضرنا عد الناجية في بعض الأحاديث ثلاثا باعتبار ، وعدها واحدة باعتبار آخر ، وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين، فتصير بهذا الاعتبار سبعين ، وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها ، مع قوله : لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع .

                        ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين : إما أن يترك الكلام في هذا رأسا إذا خالف الحديث الصحيح ، لأنه ثبت فيه إحدى وسبعين ، وفي حديث ابن مسعود : ثنتين وسبعين .

                        وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقا ثلاثا ، وإنما هي فرقة واحدة انقسمت إلى المراتب الثلاث ، لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله نجا منها ثلاث ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق . ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعاني الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد رسوله من ذلك .

                        وقوله عليه الصلاة والسلام : كلها في النار إلا واحدة ظاهر في العموم ، لأن كلا من صيغ العموم ، [ ص: 758 ] وفسره الحديث الآخر : ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهذا نص لا يحتمل التأويل .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية