الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الخامسة عشرة

                        أنه قال عليه الصلاة والسلام : كلها في النار إلا واحدة وحتم ذلك . وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ، ولم ينتظم الحديث - على الخصوص - إلا أهل البدع المخالفين للقواعد ، وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليا ، أو يخرم أصلا من [ ص: 765 ] الشرع عاما ، فلا دخول له في النص المذكور ، فينظر في حكمه : هل يلحق بمن ذكر أو لا ؟ .

                        والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى ، إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة ، كقوله :

                        كل بدعة ضلالة وما أشبه ذلك . وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة، ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة ، وبيان أنه تعرض لذكر الطرفين الواضحين .

                        أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة ، وهو قوله :

                        ما أنا عليه وأصحابي .

                        والثاني : طرف الإغراق في البدعة ، وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا ، جريا على عادة الله في كتابه العزيز ، لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأعلى ما يحمل من خير أو شر ، ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا ، إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين ، فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض ، والشر على مراتب بعضها أشد من بعض ، فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم ، أو رجوا أن يلحقوا بهم ، وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم ، أو رجوا أن لا يلحقوا بهم .

                        وهذا المعنى معلوم بالاستقراء ، وذلك الاستقراء - إذ تم - يدل على [ ص: 766 ] قصد الشارع إلى ذلك المعنى ، ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن سابط قال : لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمر قالوا : ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا وهو لا يقدر على شيء فكيف لو قدر . فبلغ ذلك أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني ؟ أقول : استخلفت خير خلقك . ثم أرسل إلى عمر فقال . إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار ، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل ، واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ! وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ، ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب ، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ؟ ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق الميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يثقل ؟ ألم تر أنما خفت موزاين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وتركهم الحق ؟ وحق الميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف .

                        ثم قال : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت ، وأنت لابد لاقيه ، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولا تعجزه .

                        وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ، ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ، [ ص: 767 ] ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمثله ، إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . والآية إنما نزلت في الكفار ، لقوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية إلى أن قال تعالى : فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ولم يمنعه - رضي الله عنه - إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم ، وهو أصل شرعي تبين في كتاب الموافقات .

                        فالحاصل ، أن من عد الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات ، في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ، ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد ، كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم - حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر - مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار ، وإن كان ما بينهما من البون البعيد ، والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد . وقد تقدم بسط ذلك في بابه ، والحمد لله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية