الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) : معنى (أسلم) : استسلم وانقاد، وكل شيء مخلوق فهو مستسلم منقاد، لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة : أسلم المؤمن طوعا، والكافر عند موته كرها.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : هو عموم معناه الخصوص، وعنه أيضا: (أسلم من في السماوات) ، تم الكلام، ثم قال: (والأرض طوعا وكرها) ، قال: و (الكاره) : المنافق لا ينفعه عمله.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : معناه: الإقرار بالعبودية وإن كان فيهم المشرك في عبادته.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : أسلم عند أخذ الميثاق عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الذي أسلم طوعا: هو من قبل ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، والذي أسلم كرها: من أقر بالتوحيد وأشرك.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 92 ] وعن مجاهد أيضا: إسلام الكافر كرها: سجوده لغير الله، وسجود ظله لله.

                                                                                                                                                                                                                                      (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) :

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد ، والسدي : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، يقال له: الحارث بن سويد الأنصاري، كان قد ارتد عن الإسلام، ثم كتب إلى أخيه يطلب التوبة، وروي ذلك عن ابن عباس ، وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : وأسلم بعد نزول الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نزلت في قوم أرادوا أن يحكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الإسلام، وفي قلوبهم الكفر، فأطلع الله نبيه على ضمائرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نزلت في اليهود وكتمانهم ما وجدوه في كتبهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا) يعني به: اليهود، كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هم اليهود والنصارى، كفروا بكتابهم حين بدلوه، ثم ازدادوا كفرا [بالقرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 93 ] وقيل: كفرهم الأول: هو كفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم ازدادوا كفرا] بالذنوب التي اكتسبوها، وهذا اختيار الطبري ، وهي عنده في اليهود.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ازدادوا كفرا إذ لم يتوبوا من كفرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نزلت في قوم ارتدوا، ثم أظهروا التوبة غير محققين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: لن تقبل توبتهم فيما تابوا منه من الذنوب وهم مقيمون على الكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لن تقبل إذا تابوا من كفر إلى كفر آخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) : (الملء) بالكسر: هو مقدار ما يملأ الشيء، و (الملء) بالفتح: المصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الواو) في (ولو افتدى به) : قيل: هي زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الإجمال; لأنه قد عم وجوه القبول بالنفي، ثم جاء بالتفصيل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: لن يقبل من أحدهم من الأرض ذهبا تبرعا، ولو افتدى به.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 94 ] (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) : (البر) ههنا: الجنة، عن ابن مسعود ، والتقدير: لن تنالوا ثواب البر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: البر: العمل الصالح.

                                                                                                                                                                                                                                      [وقيل: المراد به: الأغنياء].

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الأغنياء والفقراء، والمعنى: (حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير; من صدقة أو غيرها من الطاعات) .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : هو الزكاة المفروضة.

                                                                                                                                                                                                                                      (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة) : قال ابن عباس : كان يعقوب النبي عليه السلام قد اشتكى عرق النسا، فآلى إن شفي ألا يأكل عرقا.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : حرم الأنعام، عطاء : لحوم الإبل وألبانها.

                                                                                                                                                                                                                                      الضحاك : قالت اليهود: إن هذه الأشياء حرمت علينا في التوراة، فأعلم الله أن ذلك مما حرمه إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: حرمت في التوراة بعد أن حرمها إسرائيل على نفسه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 95 ] (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) :

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عمر : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان على زبدة بيضاء، فدحيت الأرض من تحته .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد ، وقتادة : لم يوضع قبله بيت، وعن قتادة أيضا: هبط به آدم من الجنة، ثم رفع في الطوفان، ثم تتبع إبراهيم بنيانه.

                                                                                                                                                                                                                                      علي رضي الله عنه: كان قبل البيت بيوت كثيرة، والمعنى: أنه أول بيت وضع للعبادة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم بيت المقدس، وكان بينهما أربعون سنة".

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في (بكة) ; فقال مالك بن أنس : هي موضع البيت، و (مكة) : ما وراء ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن شهاب: (بكة) : المسجد، و (مكة) : الحرم كله يدخل فيه البيوت.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : (بكة) : هي مكة، فالميم على هذا مبدلة من الباء، كما قالوا: (طين لازم ولازب) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن اشتقاق (بكة) من البك; وهو الزحم، فالناس يزدحمون فيها في الطواف، تباك الناس; إذا ازدحموا، وروي معناه عن سعيد بن جبير.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 96 ] وقيل: سميت بذلك; لأنها تبك أعناق الجبابرة.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما (مكة) ; فقيل: سميت بذلك; لأنها تمك المخ من العظم بما ينال قاصدها من المشقة، من قولهم: (مككت العظم) ; إذا أخرجت ما فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: سميت بذلك; لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها، من قوله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) [الأنفال: 35]; أي: تصفيقا وتصفيرا، وهذا لا يوجبه التصريف; لأن (مكة) ثنائي مضاعف، ومكاء: ثلاثي معتل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) قيل: المعنى: منها مقام إبراهيم ، فحذف الخبر، وآيات البيت كثيرة، وقد ذكرت قطعة منها في "الكبير".

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ: (آية بينة) ; فالتقدير عندهم: هي مقام إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) : قال ابن عباس وغيره: من كفر بفرض الحج، ولم يره واجبا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الحسن البصري وغيره: إن من ترك الحج وهو قادر عليه; فهو كافر [ ص: 97 ] وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يحج وهو قادر; فليمت يهوديا أو نصرانيا"، وروي نحوه عن عمر ، وعلي رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا سأله عن الآية فقال: "من حج لا يرجو ثوابا، أو جلس لا يخاف عقابا; فقد كفر به" .

                                                                                                                                                                                                                                      (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا) أي: تطلبون لها عوجا، ومعنى (العوج) : العدول عن طريق الحق، وهو بالكسر: يستعمل في الميل عن طريق الاستواء في الطريق، والدين، ونحوهما، وهو بالفتح: ميل كل منتصب; كالحائط، ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                                      (وأنتم شهداء) أي: تشهدون أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق، وقيل: معناه: عقلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) : روي: أنها نزلت في يهودي أراد تحريك الفتنة بين الأوس والخزرج، بعد انقطاعها بالنبي صلى الله عليه وسلم، روي معناه عن زيد بن أسلم ، وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 98 ] ابن عباس : الذي فعل ذلك شأس بن قيس، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية