الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (28) قوله تعالى: كيف تكفرون بالله : "كيف" اسم استفهام يسأل به عن الأحوال، وبني لتضمنه معنى الهمزة، وبني على أخف الحركات، وشذ دخول حرف الجر عليها، قالوا: "على كيف تبيع الأحمرين"، وكونها شرطا قليل، ولا يجزم بها خلافا للكوفيين، وإذا أبدل منها اسم أو وقع جوابا لها فهو منصوب إن كان بعدها فعل متسلط عليها نحو: كيف قمت؟ أصحيحا أم سقيما، وكيف سرت؟ فتقول: راشدا، وإلا فمرفوعان: نحو: كيف زيد؟ أصحيح أم سقيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن وقع بعدها اسم مسؤول عنه بها فهو مبتدأ وهي خبر مقدم، نحو: كيف زيد؟ وقد يحذف الفعل بعدها، قال تعالى: كيف وإن يظهروا عليكم أي: كيف توالونهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"كيف" في هذه الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه ، أي: في أي حالة تكفرون، وعلى الحال عند الأخفش، أي: على أي حال تكفرون، والعامل فيها على القولين "تكفرون" وصاحب الحال الضمير في تكفرون، ولم يذكر أبو البقاء غير مذهب الأخفش، ثم قال: "والتقدير: معاندين تكفرون" وفي هذا التقدير نظر، إذ يذهب معه معنى الاستفهام المقصود به [ ص: 238 ] التعجب أو التوبيخ أو الإنكار، قال الزمخشري بعد أن جعل الاستفهام للإنكار: "وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجود لا بد له من حال، ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكلام التفات من الغيبة في قوله: وأما الذين كفروا إلى آخره، إلى الخطاب في قوله: "تكفرون، وكنتم "، وفائدته أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء "تكفرون" مضارعا لا ماضيا لأن المنكر الدوام على الكفر، والمضارع هو المشعر بذلك، ولئلا يكون ذلك توبيخا لمن آمن بعد كفر.

                                                                                                                                                                                                                                      و"كفر" يتعدى بحرف الجر نحو: تكفرون بالله تكفرون بآيات الله كفروا بالذكر وقد تعدى بنفسه في قوله تعالى: ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود وذلك لما ضمن معنى جحدوا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم الواو واو الحال، وعلامتها أن يصلح موضعها "إذ"، وجملة " كنتم أمواتا " في محل نصب على الحال، ولا بد من إضمار "قد" ليصح وقوع الماضي حالا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "فإن [ ص: 239 ] قلت: كيف صح أن يكون حالا وهو ماض بها؟ قلت: لم تدخل الواو على " كنتم أمواتا " وحده، ولكن على جملة قوله: " كنتم أمواتا " إلى ترجعون كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت ثم يحاسبكم".

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: "فإن قلت: بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجودها هو حال عنه فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت: هو العلم بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وبآخرها"؟ قال الشيخ ما معناه: هذا تكلف، يعني تأويله هذه الجملة بالجملة الاسمية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: "والذي حمله على ذلك اعتقاده أن الجمل مندرجة في حكم الجملة الأولى".

                                                                                                                                                                                                                                      قال: "ولا يتعين، بل يكون قوله تعالى: ثم يميتكم وما بعده جملا مستأنفة أخبر بها تعالى لا داخلة تحت الحال، ولذلك غاير بينها وبين ما قبلها من الجمل بحرف العطف وصيغة الفعل السابقين لها في قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم .

                                                                                                                                                                                                                                      والفاء في قوله: "فأحياكم "على بابها من التعقيب، و"ثم" على بابها [ ص: 240 ] من التراخي؛ لأن المراد بالموت الأول العدم السابق، وبالحياة الأولى الخلق، وبالموت الثاني الموت المعهود، وبالحياة الثانية الحياة للبعث، فجاءت الفاء و"ثم" على بابهما من التعقيب والتراخي على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد، والرجوع إلى الجزاء - أيضا - متراخ عن البعث.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "إليه" لله تعالى، وهذا ظاهر؛ لأنه كالضمائر قبله وثم مضاف محذوف أي: إلى ثوابه وعقابه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: على الجزاء على الأعمال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: على المكان الذي يتولى الله فيه الحكم بينكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: على الإحياء المدلول عليه بأحياكم، يعني أنكم ترجعون إلى الحال الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على قراءة "ترجعون" مبنيا للمفعول، وقرئ مبنيا للفاعل حيث جاء، ووجه القراءتين أن "رجع" يكون قاصرا ومتعديا، فقراءة الجمهور من المتعدي وهو أرجح; لأن أصلها: "ثم إليه يرجعكم" لأن [ ص: 241 ] الإسناد في الأفعال السابقة لله تعالى، فيناسب أن يكون هذا كذا ولكنه بني للمفعول لأجل الفواصل والقواطع.

                                                                                                                                                                                                                                      وأموات جمع "ميت" وقياسه على فعائل كسيد وسيائد، والأولى أن يكون أموات جمع ميت مخففا كأقوال في جمع قيل، وقد تقدمت هذه المادة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية